كثيرة هي الكلمات العربية التي تستعمل الآن، بمعنى ما، وكانت في أصلها تحمل معنى آخر قد لا يتخيله البعض أو يتوقعه، إلا أن الشيوع وتطور اللغة وغلبة الاستعمال، ونظام الاشتقاق في العربية، والتطور الحضاري، ساهموا جميعاً، بصناعة محتوى دلالي لكلمة، فيما كانت في أصلها، من غير سياق. كـ"المؤامرة" التي تستعمل الآن، بمعناها الشائع المعروف، إلا أنها في أصولها تعود للتشاور، فيقال المؤامرةُ، المشاورة، وكذلك الائتمارُ والتآمر. من يجرؤ الآن، مثلاً، على وضع كلمتي (التآمر والمؤامرة) في سياق إيجابي؟ اللغة تتغير، بالقدر الذي نتغيّر فيه. ومثل كلمة (التجديف) التي تقال لحركة جناحي الطائر، والتجديف الذي للسفينة، ويقال جدَف الملاّح، وجدَف الرجل في مشيته، أسرعَ، ثم صار التجديف إنكاراً للنعمة وإخفاء لها. ومنه معنى التجديف المستعمل بمدلوله الديني. والرجل مجدوف اليدين، البخيل. ولعل كلمة الصدى، هي إحدى الكلمات العربية القديمة التي انتقلت من حال إلى حال، إلى الدرجة التي كانت مرتبطة بالقتل والموتى والجثث، ثم صارت مجرد إشارة إلى أصواتنا أو أصوات الآخرين وأصوات الأشياء. الصدى ذَكَر البُوم وجمعه: أصداء! وتأتي كلمة (الصدى) لتشكل فارقاً جذرياً، في مسمياتها، والتي أحصى منها (تاج العروس) 12 وجهاً منفصلاً. وفيما اتفقت أمهات العربية، كالتاج ولسان العرب والقاموس المحيط وكتاب العين ومقاييس اللغة وتهذيب اللغة، وسواها، على جميع معاني كلمة (الصدى) فقد يستغرب البعض من أن أغلب مسميات هذه الكلمة، لا يرتبط بالمعنى الذي نستعمله الآن، وهو رجع الصوت، وصدى الصوت الذي يسمع في الوادي أو الجبل أو المكان الواسع الفارغ. وكلمة الصدى متضاربة المعنى إلى درجة تحيّر فيها ألسني العربية ابن فارس، في معجم مقاييس اللغة، فقال عنها: "صدي، الصاد والدال والحرف المعتل، فيه كلمٌ متباعد القياس، ولا يكاد يلتقي فيه كلمتان في أصل". مورداً في اقتصاب يندر عند هذا الرجل، أحد معاني الصدى، قائلاً: "الصدى ذكَرُ البُوم، والجمع أصداء!". إذن، (أصداء) التي نجمعها الآن، على أنها جمع صدى الشيء أو ما تبع الشيء، كالقول (أصداء القرار الفلاني) و(لا تزال أصداء الموضوع الفلاني تتردد..) هي في الأصل جمعٌ لذكر طائر البوم الذي يتطيّر منه البعض. ويغادر ابن فارس كلمة (الصدى) بسرعة من مقاييسه، فهو أصلاً اعتبرها مشكلة من حروف متباعدة القياس. إلا أن ما غادره ابن فارس مسرعاً، مكث فيه لغويون كبار، طويلاً، فنعرف السبب الذي أرغمه على الخروج بسرعة من مقاييس الكلمة، فقد تبيّن أن الصدى، هو الرجلُ اللطيف الجسم أو الجسد، أيضاً! ما سرّ ارتباط الصدى بالجسد البشري؟ هل هي فلسفة عربية قديمة ضاعت من بين أيدينا ولم نعد نعرف مبادئها؟ الصدى: ما يتبقى من المرء في قبره! لكن بعدما كان الصدى ذكَر البُوم، ثم الرجل لطيف الجسد، علينا أن نكون مستعدين، للشيء الذي أطلقت العرب عليه، قديماً، اسم الصدى، وهو "جَسدُ الآدمي" إنما "بعد موته"، أو "ما يبقى من الميت في قبره"! يقول الزبيدي مرتضى الحسيني في تاجه، والمتوفى سنة 1205 للهجرة. وعلى الرغم من أن الصدى، هو اسم للدماغ ذاته، وعلى الرغم من أنه اسم طائرٍ يهيم في الظلام، إلا أن الصدى بحروفها التي خرج منها ابن فارس، مسرعاً، هو "طائرٌ يخرج من رأس المقتول إذا بليَ!"، يقول التاج واللسان والقاموس المحيط وكتاب العين، وهو اسم قديم منذ ما قبل الإسلام. ..وهو طائرٌ يخرج من جثة الميت! لم تنته مسميات كلمة الصدى التي بدت مخيفة المدلول كما ظهر، فالصدى هو العطش الشديد أيضاً، بل هو "سمكة سوداء طويلة، ضخمة، واحدتها صداة" يقول التاج. ويؤكد الأزهري في تهذيبه: "كانوا يسمّون ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت إذا بلي، الصدى". ويضيف: الجدجد الصدى". ويؤكد أقدم معاجم العربية، كتاب العين، أن الصدى هو الهامُ الذكَرُ ويجمع "أصداء". ونقل اللسان، أن العرب كانت تعتقد بأن عظام الموتى تتحول إلى نوع من الطيور، وكانوا يطلقون عليه اسم (الصدى!). والمسميات الـ12 التي وردت في (التاج) لكلمة الصدى وقام الزبيدي نفسه بإحصائها والقول إن لها 12 وجها هي على التوالي: 1- الرجل لطيف الجسم، 2- جسد الآدمي بعد موته، 3- حشو الرأس، 4- الدماغ، 5- طائر الليل، 6- طائر يخرج من رأس المقتول، 7- فعل المتصدي، 8- العالِمُ بمصلحة المال يسمى الصدى، 9- الصدى العطش الشديد، 10- ما يردّه الجبلُ على المصوّت، 11- ذكَر البُوم، 12- سمكة سوداء ضخمة. تتفرد كلمة الصدى بمسمياتها القديمة وتغيّرها الذي نقلها من مكان إلى آخر، بالكامل. مثلها ككلمة (الوهم) التي كانت تطلق على الجمل الضخم، فيما نستعملها الآن بمعنى الوهمي أي غير الحقيقي. وكذلك كلمة الشَّبَح التي كانت تطلق على الشخص، وأصبحت الآن تطلق على الشيء غير المرئي! إلا أن أهل الفن والطرب لو عرفوا أن (الدّندنة) كانت اسماً لصوت الذباب والزنابير، لا بدّ سيحجمون عن الدندنة، ويدخلون في الغناء، مباشرة، وبأقوى طبقات أصواتهم. وكذلك المحسوس، قديماً، هو المقتول، مِن حسَّه، إذا قتله، فيما نستعملها الآن بمعنى المدركات، ونقول المحسوسات، كما لو أننا نقول المقتولات! مفردات اللغة العربية، كتاب تاريخ مشفَّر، وضعت فيه العرب ما اختبرته في الحياة، فصارت كلماتها دلالة على فلسفتها، وصورة من تطورها وغناها، وما تغيُّر مسميات اللفظ الواحد عند العرب، إلا دلالة تطويع العربي للغته واستجابتها له. فلم تكن اللغة والحالة هذه، أداة تواصل، وحسب، بل نظام تفكير وأسلوب حياة.
مشاركة :