استراتيجية الحد من الوجود العسكري الأمريكي في الخارج: تخفيف الوجود وضمان الوصول

  • 1/7/2019
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

كان - ولايزال- قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب ألفي جندي أمريكي من سوريا، فضلاً عن سحب سبعة آلاف جندي أمريكي من أفغانستان بما يعادل نصف الجنود الأمريكيين هناك، يثير الكثير من الجدل ليس فقط حول ما اتسم به هذان القراران من مفاجأة بل حول الهدف من ذلك التوجه وعما إذا كان توجها تكتيكيا أم استراتيجيا من شأنه ترتيب تداعيات على المدى البعيد في مناطق الصراع؟ ومع أن هذين القرارين يعدان تنفيذا لوعود انتخابية قطعها الرئيس ترامب على نفسه إبان حملة الانتخابات الرئاسية فإنه من المبكر للغاية القول بأن تلك التحولات في توجهات السياسة الدفاعية الأمريكية من شأنها أن تحدث فراغا استراتيجيا في مناطق الصراع المشار إليها أخذًا في الاعتبار ثلاثة أمور الأول: أن ذلك الانسحاب لا يعني انتهاء النفوذ الأمريكي في تلك المناطق، بل يمكن تفسيرها من منظور استراتيجية «تخفيف الوجود وضمان الوصول» ومضمونها أنه في حال مواجهة القوات الأمريكية مخاطر في الخارج فإن الإدارة الأمريكية تقوم بالحد من تلك القوات على الأرض إلا أن ذلك لا يعني ترك مناطق الصراعات بشكل كامل وإنما التمركز بالقرب منها ففي الوقت الذي أعلنت الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا فإنها لا تزال موجودة بقوات في العراق قوامها 5200 جندي، صحيح أن الرئيس ترامب قال إن دور الولايات المتحدة كشرطي العالم قد «انتهى» وذلك إبان زيارته المفاجئة للجنود الأمريكيين في العراق في السادس والعشرين من ديسمبر 2018 إلا أنه استطرد قائلاً «إن العراق سيكون قاعدة لمراقبة سوريا» بما يعني أن تلك القوات بإمكانها التدخل في سوريا مجددًا حال اقتضت الضرورة ذلك، ولعل ما أشار إليه السيناتور الجمهوري لينزي جراهام بالقول «إن الرئيس ترامب تعهد بالبقاء في سوريا لإنهاء مهمة تدمير داعش» يؤكد أن الولايات المتحدة ستظل تؤدي دورًا مهما في التحالف الدولي لمحاربة ذلك التنظيم، والثاني: أن الولايات المتحدة الأمريكية بالنظر إلى دورها المحوري داخل حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وفي ظل ظهور توجهات أوروبية من آن إلى آخر لتأسيس جيش أوروبي موحد بعيدًا عن مظلة الناتو فإن للولايات المتحدة مصلحة أكيدة في الإبقاء على ذلك التحالف الدفاعي الذي يعد الأقوى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ومن ذلك استمرار العمل مع الناتو في أفغانستان والتنسيق في أماكن أخرى في العالم، بالإضافة إلى مسؤولية الولايات المتحدة عن ضمان أمن الطاقة في منطقة الشرق الأوسط لحلفائها الأوروبيين، والثالث: في ظل احتدام الصراع الأمريكي- الروسي خاصة، والغربي- الروسي بوجه عام فإن الولايات المتحدة ليس من مصلحتها الانسحاب بشكل كامل من جميع مناطق الصراع. وفي ظل عدم وضوح تداعيات ذلك الانسحاب حتى الآن فإن المؤشرات الأولية تؤكد أن الولايات المتحدة ربما لديها أفكار بشأن «ترتيبات للأمن الإقليمي» بما يضمن استمرار النفوذ الأمريكي ضمن المناطق التي تضم مصالح جوهرية للولايات المتحدة، ما تعكسه خمسة مؤشرات المؤشر الأول: وجود تفاهمات أمريكية -تركية قبيل قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا وهذا لم يكن أمرًا مفاجئًا، إذ إن تركيا عضو في شمال الأطلسي بغض النظر عن مساحات الوفاق أو الافتراق بين الجانبين، المؤشر الثاني: أن الولايات المتحدة لديها علاقات تحالف وشراكة مع دول المنطقة ليس أقلها ما أشار إليه إيرل براون رئيس العمليات الإعلامية في القيادة المركزية الأمريكية حول مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الخليج العربي بالقول «إن تحركات القوات وأعدادها في منطقة الخليج العربي ليست للنقاش» بما يعني أن لديها مصالح استراتيجية تحتم استمرار وجود قواتها في تلك المنطقة، والمؤشر الثالث: أن الولايات المتحدة حريصة على عدم إحداث فراغ استراتيجي في العالم عمومًا حتى لا تتاح الفرصة لولوج قوى دولية أخرى مناوئة للولايات المتحدة في تلك المناطق، فعلى الرغم من عدم وجود تقديرات دقيقة حول أعداد القوات الأمريكية بالخارج عمومًا تشير بعض المصادر إلى أن تلك القوات تنتشر في 150 بلدًا حول العالم ما بين قوات برية وبحرية وجوية، والمؤشر الرابع: أن السياسة الأمريكية دائمًا ما تعكس الاستراتيجيات والخطط المعلنة وبالعودة إلى استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في ديسمبر عام 2017 بالرغم من إعلائها لمبدأ «أمريكا أولاً» فإنها قد حددت العديد من الأهداف للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط والتي يمكن إجمالها في ثلاثة أهداف استراتيجية وهي؛ ألا تكون تلك المنطقة ملاذًا للجماعات الإرهابية، وعدم إتاحة الفرصة لقوى معادية للولايات المتحدة للسيطرة على تلك المنطقة، وتحقيق استقرار سوق الطاقة العالمي، والأمر اللافت في تلك الاستراتيجية تأكيدها على مبدأ «تقاسم الأعباء مع الحلفاء» من دون الخوض في تحديد آليات لتحقيق ذلك الأمر، والمؤشر الخامس: عدم وضوح طبيعة الانسحاب الأمريكي من سوريا حتى الآن هل يعني سحب جميع القوات أم أن هناك نية للإبقاء على عدد من المستشارين العسكريين؟ حيث يتوقع أن تضع الولايات المتحدة في الاعتبار مخاطر التمدد الإيراني حال حدوث ذلك الانسحاب سواء من سوريا أو أفغانستان ومن مؤشراته الزيارة التي قام بها سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني لأفغانستان في السادس والعشرين من ديسمبر 2018. ووفقًا للمصادر فإن محادثاته لم تكن مع المسؤولين الأفغان فحسب بل شملت لقاء أطراف من حركة طالبان، وقد اعتبر شمخاني أن الانسحاب الأمريكي المحتمل من أفغانستان يمثل «فرصة ذهبية لتقوية علاقات الدول الآسيوية ودعم قدراتها العسكرية». ومع أهمية ما سبق فإن الحفاظ على آليات لتحقيق الأمن الإقليمي لا يزال ضرورة استراتيجية يتطلبها ليس فقط التغير النسبي الذي تشهده استراتيجيات الأمن القومي للدول الكبرى بل في ظل تسارع وتيرة تطورات الأزمات الإقليمية التي تظل تحديا لأمن الدول كافة لكونها تعيد ترتيب موازين القوى الإقليمية وهذا هو التحدي الرئيسي الذي يواجه منظومة الأمن الإقليمي في الوقت الراهن. ‭{‬ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولي بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة

مشاركة :