ملامح من العلاقة الجدلية بين البنوك والثورات الصناعية (1)

  • 1/7/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

مثلما يمثل القطاع المالي والمصرفي حجر الأساس للتطور الاقتصادي عبر التاريخ، فإن تطوره كان مرتبطا وملازما للمتغيرات الكبرى التي شهدها الاقتصاد العالمي، حيث تشير العديد من الدراسات والوقائع التاريخية إلى أن هناك علاقة عضوية (جدلية) على وجه الخصوص بين التطورات الاقتصادية التي شهدتها الحضارات القديمة وتطور نظمها المالية والمصرفية، فالأنماط الأولى من النشاطات المالية والمصرفية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، إذ إنها نشأت وتطورت في كنف الحضارات القديمة، كالحضارات العراقية، والفرعونية، والرومانية، واليونانية، والهندية، وهذا ما سنتعرض له بالتحليل في عدد من المقالات، مركزين على العلاقة الجدلية بين البنوك والثورات الصناعية التي شهدها العالم مع توضيح ما سيكون عليه القطاع المالي والمصرفي في المراحل المتقدمة من الثورة الصناعية الرابعة وعلاقة ذلك بمستقبل التنمية الاقتصادية عالميا وإقليميا ووطنيا. ولأجل ذلك فإن مقالنا لهذا اليوم يقدم عرضا لنشأة القطاع المالي والمصرفي في بلاد الرافدين، حيث سادت فيها حضارات عديدة أبرزها؛ الحضارتان السومرية والبابلية قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، واللتان شهدتا ولادة أنماط متعددة من النشاط المالي والمصرفي الذي رافق ازدهار نشاطهما التجاري، ونظما قواعدهما، كما نظما الضرائب والمكوس، فمثلا تعود الصلات التجارية للسومريين مع مدن الخليج العربي إلى الألف الرابع ق.م، فقد وصلت سفنهم إلى مياهه منذ ذلك الزمن وتنقلت بين سواحله ومراكزه التجارية وهي تحمل المنتجات والمصنوعات السومرية مثل النسيج والملابس والحبوب والزيوت النباتية والجلود وغيرها من المنتجات، ومثلت تلك المراكز محطات تجارية في طريق تجارة السومريين التي امتدت إلى بلاد السند شرقا وسواحل إفريقيا الشرقية غربًا، وإن التجارة تتطلب أساليب تمويل متعددة وكان السائد منها آنذاك الإقراض، والمشاركة. وكانت المعابد تقوم بدور مشابه للبنوك، نتيجة لثقة الناس فيها، ولا سيما أصحاب المال والتجار وفي ذلك يقول المؤرخ الإنجليزي الشهير ارلوند توينبي في كتابه تاريخ البشرية «إنَّ أهم ما يميز الحضارة السومرية التقوى الدينية والمهارة التجارية». وما يثبت أيضا اهتمام السومريين بالتجارة والأعمال المالية والمصرفية، هو أنَّ الرقم الطينية وما تركوه من مدونات أخرى تم اكتشافها في المواقع الأثرية السومرية، في أغلبها قد وثقت النشاطات الاقتصادية من عقود بيع، وشراء، ورهن، وإيداع، وصكوك، وإيصالات استلام وغيرها من وثائق شكلت نسبة 96% من تلك المدونات، بينما شملت الكتابات الأدبية المختلفة من أساطير وملاحم وقصص وأمثال وحكم وأشعار النسبة الباقية، وهذا يدل على أنَّ الحضارة السومرية كانت حضارة عملية اهتمت بتنظيم الجانب الاقتصادي بكل قطاعاته التجارية والعمرانية والزراعية والمالية والمصرفية. كما أشار المؤرخ ديفيس Davies (في كتابه المعنون تاريخ النقود من العصور القديمة إلى الوقت الحاضر الصادر عام 2002 عن جامعة ويلز البريطانية) إلى عثور علماء التنقيب على رقم طينية سومرية هي عبارة عن إيصالات (Receipts) كانت تستخدم ليس فقط لتحويلات من المودعين الأصليين ولكن كذلك لصالح أطراف أخرى. وفي مراحل متقدمة من الحضارة السومرية تم الاستغناء عن الدور المصرفي للمعابد وأنشئت في البلاد بيوت خاصة (Private Houses) تقوم بالعمليات المصرفية. وحينما سادت الحضارة البابلية في العراق، سن الملك البابلي «حمورابي» قانونا شاملا لتنظيم الحياة في المجتمع البابلي حفر على مسلته الشهيرة في عام 1760 قبل الميلاد تضم نصوصا تقنن نشاط الإيداع، والإقراض، والمشاركة، وتحض على الإيفاء بالالتزامات المالية، ففي المادة(5) من قانون حمورابي ورد نص يقول «يلتزم الفلاح كل سنة بتوريد جلود الحيوانات لجباة الضرائب». وفي المادة (122) ورد نص يقول «إذا أعطى رجل فضة أو ذهب أو أي شيء آخر إلى رجل آخر للمحافظة عليه، فعليه أن يشهد الشهود على ما أعطى وعليه أن يدون عقدا بذلك». كما أن عددا من الرقم الحجرية التي تم العثور عليها في بابل وهي عبارة عن رسائل وجهها الملك حمورابي إلى حاكم مدينة اموت بالوم (شماس - هاسر) يحذره فيها من تأخير ما عليهم من ضرائب القمح ويحثه على سرعة إرسالها إلى بابل. كما وجد المنقبون رقما حجريا هو عبارة عن حوالة خارجية صادرة عن احد مراكز القيادة في مدينة سيبار البابلية الواقعة على نهر الفرات. تخول حاملها باستلام (8.5) أمنان من معدن الرصاص (المنّ وحدة قياس للوزن في زمن الحضارة البابلية) بعد 15 يوما في مدينة أبشاما البابلية الواقعة على نهر دجلة والمودعة عند كاهنة المعبد. إن الشواهد على تطور النظام المالي والمصرفي في الحضارة العراقية القديمة كثيرة ومتنوعة ولكن نكتفي بهذا القدر على أن ننتقل إلى بيان كيفية انتقالها إلى الحضارات الأخرى المواكبة زمنيا للحضارتين السومرية والبابلية أو التي أعقبتهما في التسلسل التاريخي في مقالنا القادم. ‭{‬ أكاديمي وخبير اقتصادي

مشاركة :