خلال عصر النهضة الأوروبية الذي تلى الفترات المظلمة للعصور الوسطى، كانت أوروبا على موعد مع فترة ازدهار غير مسبوقة تميّزت بالعديد من الإنجازات. وعرفت أوروبا إضافة للاكتشافات الجغرافية والمنحوتات واللوحات الفنية، اختراعات غيّرت حياة البشر، وبالتزامن مع الطباعة، شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر تطورا مذهلا لجهاز المجهر، الأمر الذي ساهم في تقدم علوم الأحياء الدقيقة خلال السنوات التالية. وبحسب المؤرخين، لم يتردد الإنسان منذ القديم في استخدام البلور لتكبير حجم الأشياء، وبناء على ما ذكره الفيلسوف الروماني سينيكا (Seneca) ومواطنه المؤرخ بليني الأكبر (Pliny the Elder) استعان بعض الفلاسفة والأباطرة الرومان منذ القرن الأول بعد الميلاد بأنواع بدائية من العدسات المكبرة لجعل الحروف أكبر أثناء القراءة، ولعل أبرزهم الإمبراطور نيرون (Nero) والذي قيل إنه اعتمد على قطعة رقيقة من الزمرد. ومع ذلك، ظلّ استخدام هذه العدسات محدودا إلى حوالي القرن الثالث عشر والذي شهد ظهور نوع بدائي من النظارات اتجه العديد من الرهبان لاستخدامه. في حدود العام 1590، كان العالم على موعد مع إنجاز فريد من نوعه، حيث أقدم صانع النظارات الهولندي زاكرياس يانسن (Zaccharias Janssen) بمساعدة والده هانس (Hans) على صناعة ما يمكن أن يصنّف كأول مجهر حيث أقدم الرجلان على وضع عدد من العدسات داخل أنبوب ليتمكنا في النهاية من تكبير الأشياء أكثر من السابق وليشهد العالم ظهور أول أنواع المجاهر المركبة والتي تعتمد على أكثر من عدسة. ومع حلول سنة 1609، أجرى الفيزيائي والفلكي الإيطالي غاليليو غاليلي (Galileo Galilei) دراسة على البصريات حدّث من خلالها على العدسات والضوء قبل أن يتمكن خلال نفس العام من صنع أول مجهر له. ووضع هذا العالم الإيطالي سنة 1624 مجهرا آخر حمل اسم occhiolino تميّز باحتوائه على عدسات محدّبة. وخلال القرن السابع عشر، أعجب الهولندي أنطوني فان ليفينهوك (Antonie van Leeuwenhoek) بطريقة عمل العدسات المكبرة أثناء فترة عمله بأحد المخازن حيث اقتصرت مهمته حينها على عد الخيوط بالقماش المنسوج. وبفضل ذلك، قرأ الأخير عن كيفية صناعة العدسات قبل أن يبدأ بإعدادها شخصيا ليتمكن في النهاية من صناعة نوع من العدسات المكبّرة المقوّسة قادرة على تكبير الأجسام 270 مرة. لاحقا، تمكّن أنطوني فان ليفينهوك من صناعة مجهر حقق من خلاله إنجازات علمية هامة حيث شاهد هذا العالم الهولندي خلايا الدم، وقدّم رسما تقريبيا لها، وحدّث على البكتيريا والخميرة وعدد من الجسيمات الدقيقة. ويعد أنطوني فان ليفينهوك أول إنسان شاهد ووصف الحيوانات المنوية وبفضل كل هذه الإنجازات الخالدة لقّب الأخير بأب الدراسات المجهرية. وفي نفس الفترة، أجرى العالم الموسوعي الإنجليزي روبرت هووك (Robert Hooke) جملة من الأبحاث على المجهر أسفرت في حدود سنة 1665 عن اكتشاف الخلية (Cell) حيث استغل الأخير قطعة من لحاء شجرة فلين لمشاهدة الخلية والتي أقدم على تسميتها، كذلك نسبة للغرف الصغيرة التي احتوت عليها الكنيسة والتي سميت cella باللاتينية. وإلى حدود منتصف القرن التاسع عشر حافظ المجهر على خاصياته دون أن تطرأ عليه تغييرات تذكر، وجاء ذلك قبل أن تباشر العديد من الدول بإنتاجه بشكل مكثّف تزامنا مع تقدم الأبحاث العلمية ومساهمة العالم الألماني كارل زايس (Carl Zeiss) في تحسين جودة العدسات المكبّرة. وفي الأثناء، صنّف مجهر الأميركي شارل سبانسر (Charles A. Spencer) كأفضل وأجود أنواع المجاهر خلال تلك الفترة. ومع حلول ثلاثينيات القرن العشرين، شهد العالم ثورة علمية حقيقية مع ظهور المجهر الإلكتروني والذي كان قادرا على تكبير الأشياء مئات آلاف المرات.
مشاركة :