ودعنا قبل أيام العام الميلادي الذي تصرمت أيامه وانقضت لياليه وكأنه لم يمر ولم يمض ولم يتغير فيه الحال إلى ما هو أفضل في نظر كثير من الناس، ولا سيما الذين عاشوا أيامه في حروب وفتن وعوز.
وقد اعتاد الناس في كل عام أن يستحضروا الأرباح والخسائر ويعدوا أيام السعادة التي كانت لهم في عامهم المنصرم أو ما يقابلها من الشقاء والحرب والخوف الذي أصابهم وقضى على آمالهم ومستقبل حياتهم.
كلا الفريقين سيقفون ويراجعون الحسابات ويتذكرون ما مضى فيه من أحداث لهم أو عليهم، ويقيسون التغير في كل لأحوال كالتاجر الذي يعد مكاسبه إن كسب شيئا أو خسارته إن خسر، ويرى زيادة رأسماله أو نقصه، ومثل التاجر الناس كافة، كل له في سنته التي مرت أرباح وخسائر، وكل له في عامه الذي ودعه حال وذكريات ومواقف يراجع فيها أيام عامه بما أعطت وبما أخذت.
ومثل الناس الأمم والشعوب والمجتمعات والجماعات التي لقيت في عامها مثل ما يلقى الأفراد فيه، هؤلاء لهم حساباتهم وخسائرهم وأرباحهم التي يعدونها ويحسبون ما جنوا من ربح أو ما أصابهم من خسران، كانت البشرية كلها تنظر إلى العام المنصرم بنظرة المحاسبة والإحصاء الدقيق لما وصلت إليه من النجاح وما حققت من أسباب الرضاء والمكاسب.
وقد يكون فيهم الخاسرون الذين أدركوا أهمية المراجعة لما أصابهم والبحث عن أسباب خسارتهم حتى يعرف كل منهم كيف لا يكرر خسائره في عامه المقبل، وكيف يتلافى ما حدث منه، ولماذا وقع في الخسارة ولم يحقق الربح الذي يرجوه.
وفريق من الناس ودعوا العام بمرارة الخسارة، قد لا تكون في الاقتصاد والمال، قد تكون في السياسة وقد تكون في الصداقات والصلات والعلاقات العامة، وحتى الأزمات والحروب هناك من خسرها وتألم لخسارته واعترف بها وكان همه ألا يكررها في عامه ومستقبل أيامه.
أما الرابحون في عامهم الذي مضى فهم يحمدون الله على ما حققوا ويحمدون عامهم الذي جلب لهم الأرباح والمكاسب، ويتمنون أن تستمر مكاسبهم ونجاحاتهم مثلما كان لهم في العام السالف عليه. وكل الخاسرين والرابحين فيه لا يختلفون على حصاد ما مضى لهم أو عليهم، ويحدوهم الأمل والتفاؤل فيما يأتي لعله يكون خيرا من الله، يهنئ بعضهم بعضا بقدوم العام الجديد دون حرج في الصدور مما يقولون ويفعلون.
وفريق غير من سبق أرباحه وخسائره مؤجلة لا يعدها ولا ينظر إليها في دنياه ولا يحسب حساب ذلك أو بالأصح لا يدري إن كان قد ربح شيئا أو خسر آخر، لأن حسابات الربح والخسارة ليست معلومة عنده ولا ظاهرة.
هذا الفريق مشغول فيما يرى أنه أهم من ربحه أو خسارته المادية، يرى مسؤوليته تصحيح أعمال الناس والنظر في شؤونهم وما يصلح حالهم في رأيه، ليس في الدنيا التي هي مجال التنافس وسبب الاختلاف، إنما يرى مسؤوليته عن أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم وما يجب لهم وما يجب عليهم، وهمه في مطلع كل عام وفيما يعرض من مناسبات هو تعكير علاقات الناس بعضهم ببعض، فهذا في رأيهم لا يهنأ، وذاك لا يسلم عليه، وثالث يجب هجرانه وبغضه.
وكلف هذا الفريق نفسه بتحديد من تجب مشاركته وتهنئته في مناسباته وأفراحه وأحزانه وما له وما عليه ومن لا تجب ولا تجوز. مع ذلك فإن علاقات الناس والإحسان إليهم كانت أقوى من كل ما يقولون ويفعلون، ورحمة ربك وسعت كل شيء.