هكذا هي حياة كل إنسان لا بد أن يكون لها خاتمة، فالدوام لله عزَّوجلَّ ولا يبقى من المرء سوى سيرته الطيبة وأعماله الصالحة، وخير خاتمة هي أن يموت المرء بعد أن يؤدي واجبه تجاه دينه ووطنه على أكمل وجه، ويرحل وهو مطمئن بأن ألسنة الناس لن تكف عن الدعاء له بالرحمة والمغفرة محبة وعرفانا بما قدمه لدينه وأمته. مهما تحدثنا عن خصاله الحميدة ومآثره العظيمة لن نوفيه حقه، لقد أحدث ثورة هائلة في حياتنا حينما أصدر أوامره السامية في بداية حكمه لتكون بمنزلة منهاج تسير عليه سياسة الحكم في المملكة العربية السعودية إذ تحولت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عهده إلى مستويات متقدمة من الرخاء والتنمية بخطى موزونة وثابتة بحيث لم نتأثر بالأزمات الاقتصادية التي أنهكت كاهل الاقتصاد الأوروبي والأمريكي وكثير من الدول الصناعية المتقدمة التي فقد عديد من مواطنيها وظائفهم وتجارتهم بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة لبلدانهم. إن التغيرات التي طرأت على حياة المواطن السعودي خلال فترة حكم الملك عبدالله جديرة بأن تكون محل دراسة وتأمل لأنها شهدت كثيراً من الأزمات السياسية والاقتصادية والتي لم تسلم من تداعياتها جميع بلدان العالم العربي والإسلامي لدرجة أن الغرب بأسره تكالب عليها بشتى أنواع الأسلحة العسكرية والإعلامية بحثاً عن عدو هلامي ابتكرته الولايات المتحدة لبسط سيطرتها ونفوذها على منطقة الشرق الأوسط، منبع الذهب الأسود والمحرك الرئيس لاقتصادها وكان على العرب حينها أن يدفعوا ثمناً باهظاً لتلك الأطماع الغربية، لكن حنكة القائد الذي يعرف جيداً أين يضع قدمه بثقة واطمئنان، أحرجت الغرب الذي وجد نفسه مجبراً أمام المبادرات الإنسانية والحضارية التي تتبناها المملكة في المحافل الدولية على الاعتراف بأن الإسلام بريء من تهم الإرهاب والعنف، فالملك الراحل استطاع بعفويته اللامتناهية أن يجسد المعاني السامية للإسلام من خلال قيم التسامح والتعايش التي تجلت في كل مبادراته المعلنة. لقد تحمل الراحل مسؤولية تاريخية في قيادة العالمين العربي والإسلامي في أصعب الأوقات وأحلكها، واستطاع أن يقود السفينة إلى بر الأمان رغم شراسة الحملات الإعلامية التي شنها الغرب بعد أحداث 11 من سبتمبر. كان رحمه الله في خضم المعترك الأيديولوجي بين الشرق والغرب متسلحاً بالحكمة والصبر والطموح من أجل دفع بلاده نحو التحديث والتطوير والتنمية المتوازنة على جميع الأصعدة، وهو ما تحقق في ظل الفوائض المالية الهائلة التي سخَّرها رحمه الله على أكمل وجه لخدمة الدين والوطن، ويشهد على هذا القول أكبر توسعة للحرمين الشريفين على مر التاريخ التي أتت امتداداً لمآثر حكام المملكة في اهتمامهم بالأماكن المقدسة خدمة للإسلام والمسلمين، أما على مستوى التنمية الإدارية في المؤسسات الحكومية فلا أحد يجادل بأننا خطونا خطوات جيدة نحو التحول الإلكتروني في إنجاز المعاملات، وهذا أسهم كثيراً في الحد من البيروقراطية والفساد المالي والإداري بعدما أولى رحمه الله عناية كبرى في محاربة الفساد المستشري في مؤسساتنا إذ لم يتوان في إعلان مكافحة الفساد منذ بداية حكمه حيث أعلن ذلك مراراً وتكراراً وفي أكثر من مناسبة. كما أن المجتمع السعودي مرَّ في عهد الملك الراحل بانفتاح تدريجي على منجزات الحضارة المعاصرة دون تقديم أي تنازلات لا في المعتقد ولا بقيم وعادات المجتمع السعودي الأصيلة، فكان برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث أساس ذلك الانفتاح الحضاري الذي سنجني ثماره في السنوات المقبلة لأنه لم يستهدف منطقة بعينها لتستأثر بالنصيب الأكبر من مقاعد الابتعاث، بل وأقولها جازماً بأنه لا توجد منطقة أو مدينة سعودية إلا ولها سفراء في مختلف دول العالم المتقدم، وهذا لعمري من أسمى معايير العدل في برنامج الابتعاث، ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن الأوامر السامية التي أصدرها الملك تزامناً مع برنامج الابتعاث تدل على بعد نظر وحكمة خاصة تلك الأوامر المتعلقة بتأسيس مؤسسات المجتمع المدني، فهي ستكون ـ بإذن الله ـ بمنزلة نقطة الانطلاق نحو نشر ثقافة الحقوق المدنية التي تمرّس عليها الطلاب في بلاد الابتعاث؛ أي أن الظروف ستكون مواتية لمزيد من الإصلاحات في كافة المجالات. من الوفاء والمروءة ألا ننسى المواقف الشجاعة لرائد الإصلاح ومبادراته الإنسانية تجاه مختلف القضايا، فهو المدافع الأول عن قضايا الأمتين العربية والإسلامية، ويكفي أن نذكر مبادرته التي أصبحت فيما بعد المبادرة العربية للسلام الشامل والتي أثنى عليها العالم أجمع كمبادرة شجاعة من رجل حكيم، ولن ينسى العالم مبادراته العالمية مثل مركز حوار أتباع الأديان والمركز العالمي لمكافحة الإرهاب وغيرها. نحن وإن كنا على فراق مليكنا محزونين إلا أن وجود رجل بحجم الملك سلمان علماً وحكمة وفراسة يبث في النفوس الطمأنينة والراحة، فمن نعم الله على هذه البلاد المباركة أن سخَّر لها قادة قادرين على مواصلة المسيرة بذات النهج الذي سَنَّه الملك المؤسس طيَّب الله ثراه، وهذا ما يعزِّي الشعب السعودي ويخفف من مصابه الجلل بفقد قائد عظيم. ندعو الله أن يتغمد فقيدنا بواسع رحمته وأن يسدد خطى مليكنا وقائدنا سلمان لما يحبه ويرضاه وأن يوفق سمو ولي عهده الأمير مقرن بن عبد العزيز وسمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف ويعينهم على تحمل مسؤولياتهم الجسيمة وأن يحفظ بلادنا من كل مكروه.
مشاركة :