منذ سنوات وتدني إنتاجية القوى العاملة الوطنية يتم جلدها على صفيح ساخن، نمارس نحن الكتاب مع رجال الأعمال ومع مسؤولين في القطاع الحكومي ذلك على نحو متعاقب. ومع قناعتي بأن تدني الإنتاجية حقيقة فاقعة اللون، وبالذات في القطاع الحكومي.. إلا أن تواتر تدني الإنتاجية في علاقتها بالمواطن بدا يوحي بأنها سمة بيولوجية مقدرة على هذا المخلوق الوطني، بل قد يوحي بنوع من التمييز العنصري البغيض حتى ولو لم يكن مقصودا، خصوصا أن رجال أعمال لا يكادون يكفون عن جعلها شماعة انعدام شهيتهم للسعودة، وكأن معظم هذه الجيوش من العمالة الوافدة ليست شبه أمية تتعلم الحلاقة في رؤوسنا. إذا .. من أي ثقب أسود يهبط تدني الإنتاجية؟ هل يهبط من الثقافة الإدارية، أم من بيئة العمل؟ إننا لو أحلنا العلة للثقافة الإدارية نواجه حقيقة مفادها أن معظم موظفي الدولة مروا بدورات تأهيل وتدريب في معهد الإدارة العامة على مدى العقود الماضية .. ما يجعلنا نتساءل: هل ما يقدمه المعهد من برامج لا يتناسب مع طبيعة أعمال الدولة، أم أن برامجه لا تنسجم مع المزاج النفسي الاجتماعي العام والعقل الوطني؟ أو أن جيوش المتدربين في هذا المعهد ينسون ما تعلموه في قاعات الدرس لحظة خروجهم من بابه؟ إن كان الأمر متعلقا بعدم مناسبة البرامج فذلكم شأن يفتي فيه أهل الاختصاص، أما مسألة نسيان الجميع ما تعلموه فهو بالتأكيد قول أخرق، لكن خراقته تجعل السؤال أكثر إلحاحا: لماذا لا يطبق هؤلاء الموظفون ما تعلموه؟ طبعا .. لا يمكن اعتبار الأمر تواطؤا عاما بالعصيان الوظيفي لجهة عدم التطبيق، ولا حل لهذا اللغز إلا في أنهم إما لا يجدون عملا على مقاس ما تعلموه، وإما أنه يتم مسخه تحت وطأة البيروقراطية .. يؤكد ذلك أن حجما كبيرا آخر من موظفي الدولة لم يتأهلوا في معهد الإدارة، وإنما في جامعات العالم وبعضهم في أرقاها .. ومع ذلك يتبدد علم وتأهيل هؤلاء وأولئك. يتبقى أمامنا بيئة العمل .. وهو مصطلح أو مفهوم مركب يهتم بالمناخ العام للمنشأة وعلاقات الزمالة بين رئيس ومرؤوس والتقدير المادي والمعنوي للمبادرة والإبداع وأنواع الحوافز الأخرى .. ومهما كان التحفظ حول تلك العناصر فليس بالإمكان جحود وجودها في القطاع الحكومي.. بل إن مناخ العمل والعلاقات بين رئيس ومرؤوس أكثر اطمئنانا منها في القطاع الخاص. هذه الإزاحة لتلك الأسباب تقودنا إلى النظر في جوهر المسألة ولب القضية وهو العمل - الذي هو مضمون ومنهج ورؤية - حيث المضمون والمنهج يشكلان النموذج الكفء لتحقيق إنتاجية عالية في الخدمة أو في النمو الاقتصادي، مع أن كليهما يؤثران في بعض سلبا أو إيجابا، وبقدر ما يكون النموذج (المضمون والمنهج) في الجهة واضحا دقيقا في الأهداف، بقدر ما ينجح في تحقيق رؤية الجهة، ويسهم في الوقت نفسه في تحقيق الرؤية الكلية للتنمية الوطنية. إننا لو تأملنا في مهام الجهات الحكومية فسنجدها مهام يختلط فيها الأساسي بالهامشي، وكأنها معنية بإصلاح الكون، وهذا ما يفسر تنازع الصلاحيات بين الجهات عندما تفرض قضية نفسها على السطح، وغالبا ما يتم تدارك هذا الحرج بلجنة تشكل لهذا الغرض. إن مهام الجهة هي نطاق اختصاصها .. أي عملها المطلوب إنجازه .. عمل يفترض أن له نوعا ووزنا وحجما .. يتحدد على أساسه نوع ووزن وحجم المهارات المطلوبة .. وحتما، فإن تشوش مضمون العمل ومنهجه (النموذج) يفتح ثغرات واختلالات في هيكل الجهة، يتم ترقيعه بقوى عاملة هي في الواقع فائض عن الحاجة .. ومن هذا الفائض يولد التدني في الإنتاجية .. لأن حاصل مجموع الأوقات التي يستهلكها جميع الموظفين لإنجاز عمل ما مقسوم على المجموع الإجمالي للموظفين سيتضاءل ناتجه قصرا في المدة وانخفاضا في الجودة، كلما زاد تعداد هذا الفائض من القوى العاملة، التي هي أصلا ليست مسؤولة عن هذه النتيجة المتدنية، لأنه أوكل إليها عمل لم يتم ضبطه وحوكمته بمعايير دقيقة تخص مهام الجهة .. وبالتالي لا غرابة في أن تتدنى الإنتاجية حين يكون موضوع الإنتاجية نفسه وهو العمل مشوشا مفتوحا على فزعات الاجتهادات التي أدارت وتدير أسطوانة تدني إنتاجية المواطن رغما عنه حتى كاد يشك في نفسه!
مشاركة :