البقاء في أعماق سحيقة.. معركة الكائنات البحرية

  • 1/16/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

إعداد:محمد هاني عطوي الحياة في أعماق البحار باردة، والضغط هائل والظلام دامس... ومع ذلك فكلما حاولنا أن نستكشف هذا العالم الوعر أدركنا أن الحياة تضج فيه في كل مكان بدءاً من عمود الماء (حجم كمية المياه بين القاع وسطح المحيط)، مروراً بقاع البحر، وانتهاء بالأغوار الواقعة في أعمق الحفر أو على طول خاصرتي ظهر المحيط (أعراف منتصف المحيط ). في هذه المناطق تنتشر العوالق ( البلانكتونات ) والأسماك والقشريات والديدان، وقناديل البحر. والحقيقة أن الباحثين لم يتوقعوا مثل هذا الحصاد الحيواني الكثيف لأنه حتى إذا كانت هذه المخلوقات قد تكيفت مع الحياة تحت الضغط وفي الظلام، فهي تواجه تحدياً يومياً آخر وهو العثور على الطعام!والواقع، أنه لا يوجد في الأعماق، سوى الماء والرمل والصخور وليس هناك أي أثر للنباتات، لأنها في هذا الظلام الدامس العميق، لا يمكن أن تتطور وتنمو مع العلم أن النباتات هي أساس السلسلة الغذائية على سطح الأرض خاصة أنها ملأى بالكلوروفيل وتقوم بالتقاط الطاقة الشمسية واستخدامها لتحويل الماء والمعادن وثاني أكسيد الكربون من الجو إلى سكريات. وبفضل هذه العملية، المعروفة باسم عملية التمثيل الضوئي، يمكن للنباتات أن تنتج الطاقة الخاصة بها لإنتاج مكونات خلاياها. بهذه الطريقة يمكنها أن تنمو وتكبر أو تستبدل أعضاءها المستخدمة. الحيوانات من جهتها تحصل على الطاقة من النباتات فقط. فالحيوانات العاشبة تتغذى على النباتات، ثم تصبح فريسة بدورها للجوارح ( آكلات اللحوم ). هذا هو ما يحدث على السطح. ولكن كيف تعمل كائنات الأعماق حيث لا يوجد نباتات؟ الحقيقة أنها تعتمد اعتمادا كليا على الأغذية المنتجة على السطح! فالكائنات التي تعيش بين 300 و 800 متر تحت سطح البحر أي قليلا أسفل المنطقة التي تظل مضاءة بفعل الشمس، تطلع من وقت لآخر لمطاردة ضحاياها أو التغذي على العوالق النباتية. وعندما تنزل، تصبح فريسة سائغة للحيوانات التي تعيش في أعماق أكبر، والتي ستصبح ربما هي بدورها ضحية لحيوانات تتحرك في منطقة أعمق وهلم جرا. ولكن بعد عمق 2000 متر، يصبح الضغط عاليا إلى درجة أن أدنى حركة تكلف الكائن المتواجد هناك الكثير من الطاقة. ولذا فإن مخلوقات الأعماق تفضل المحافظة عليها من خلال البقاء في الأعماق السحيقة بشكل دائم.عمال النظافةوالحقيقة أن ما يغذي معظم حيوانات الأعماق، هو الجيف والفضلات! وجميع الغواصين يعرفون ذلك، فعندما ننظر إلى الأسفل نرى هبوط ما يشبه «نتف الثلج». وهي تتألف من عوالق ميتة، ودروع قديمة لحيوانات نافقة وقشريات وفضلات الحيوانات. كل هذه العوالق مرتبطة بمخاط تفرزه هي نفسها بشكل طبيعي. هذا الحطام يتجمع لتشكيل رقائق كبيرة تغوص في الأعماق ببطء بمعدل متر في الساعة ثم يتم امتصاصها من قبل كثير من الكائنات التي تساهم في تصفية كميات كبيرة من مياه البحر لاستخراج هذه البقايا الغذائية الدقيقة. هذه الحيوانات المفلترة (العوالق الروبيان الصغير، قناديل البحر، وحتى الحيوانات الكبيرة مثل الحبار مصاص الدماء) تصبح بمثابة الوليمة اللذيذة للحيوانات آكلة اللحوم. هذا هو المبدأ، ولكن لا تتصور أن كل هذه الكائنات تتقاتل من أجل طعامها في ضجة مائية مبتهجة. إذ ينبغي ألا ننسى أننا هنا في الأعماق السحيقة التي لا علاقة لها بمنطقة الشعاب المرجانية المكتظة بالحيوانات! وعندما يهبط المرء إلى أسفل بالغواصة المجهزة بالمصابيح الأمامية، فإن الأمر يكون بمثابة الحدث الكبير عند رصد عبور سمكة أو قنديل البحر. فالواقع، أن نتف الثلج أو العوالق الميتة المنتجة على السطح بين (0-300 متر ) تتفرق بسرعة وتذوب في هذا الحوض المائي الهائل الذي يصل إلى 3000 متر في المتوسط ! وكلما هبطنا أكثر في العمق، قلت كمية الطعام ونقص عدد المستهلكين. وفي بعض المناطق، بالكاد نجد جراماً واحداً في المتر المربع من المادة الحية.وإذا كنت تريد أن ترى شيئا من هذا العالم، فمن الأفضل الذهاب في نزهة إلى قاع المحيط فهذا هو المكان الذي تعثر فيه على جثث الدلافين وأسماك القرش والحيتان... ونظراً لوزنها (من عدة مئات من الكيلوجرامات إلى عشرات الأطنان)، فإنها تهبط بأقصى سرعة ولا يكون هناك متسع من الوقت كي تلتهمها آكلات اللحوم قبل أن تصل القاع.حول هذا البوفيه العملاق يتجمع الزبالون الكبار الذين يقطعون الضحية ثم تنبري لها الديدان والقشريات لتتغذى على بقاياها وأخيراً يأتي دور البكتيريا التي ستعمل على تغذية نظام إيكولوجي جديد تهيمن عليه الديدان، والمحار وبلح البحر العملاق قبل أن يستهلك آخر جرام من نخاع الحوتيات الذي يمكن أن يستغرق أكثر من خمسة وعشرين عاما. ولكن حيث الحياة مفعمة بالحيوية بالفعل هنا عند المداخن السود فحول هذه المداخن التي تنفث من حافة المحيط وتقذف بسوائل ملأى بالمعادن نجد من المادة الحية ما يزيد عن 10 آلاف إلى 100 ألف مرة من أي مكان آخر في الأعماق السحيقة! ففي المحيط الأطلسي مثلا نجد أن خاصرة المداخن تغزوها أسراب من الروبيان الأعمى بمعدل 3000 فرد لكل متر مربع. وفي منطقة المحيط الهادئ، نجد أن الديدان العملاقة، تشكل أدغالاً كثيفة تدور حولها أخطبوطات وأسماك وروبيان وقواقع بحرية صغيرة، الخ. ونجد في منأى، أسراب من بلح البحر والمحار تتثبت داخل شقوق أعراف منتصف المحيط.ومع ذلك، فلا تزال الأعماق جنة لكثير من الكائنات فالمياه التي تطلقها المداخن حامضية، ومحملة بمواد شديدة السمية مثل كبريتيد الهيدروجين (H2S) وتصل درجة حرارتها إلى 350 درجة مئوية. ولحسن الحظ، ما أن ينطلق هذا السائل الحامضي السام حتى يتخفف ويذوب في مياه البحر الجليدية وتصبح حرارته 10 درجات مئوية فقط عند مسافة لا تزيد عن 10 سم من المداخن التي صدر عنها كما تصبح المواد السامة أقل تركيزا وسمية ما يجعل الحياة ممكنة في هذا المكان. ولكن لماذا هي غنية جدا في هذا المكان ؟ الواقع أنه في هذا العالم، نجد أن البكتيريا هي التي تشكل أساس السلسلة الغذائية بل هي مجهزة أصلاً لتتحمل هذه الظروف القاسية، وهي تستمد طاقتها ليس من الضوء ولكن من مركب كيميائي هو كبريتيد الهيدروجين فبفضل هذا الوقود الصادر عن المداخن، تدير «مصانعها الداخلية» لإنتاج موادها العضوية، وذلك على غرار بعض النباتات والحيوانات، مثل ديدان Alvinella، التي تتغذى على هذه البكتيريا من المداخن نفسها وديدان Riftia العملاقة التي تستضيف البكتيريا في العضو الذي يمثل الجهاز الهضمي، في حين أن الروبيان الأعمى، يستضيفها تحت دروعها القرنية. وفي المقابل تنتج البكتيريا مواد غذائية تطلقها بشكل مباشر في دم مضيفها. هذه الواحات الحياتية لا تشبه بشيء ما نعرفه على القارات أو اليابسة، ويأمل الباحثون أن يكتشفوا في الأعماق موائل أخرى وحيوانات أخرى غريبة. والحق يقال، إن كل شيء تقريبا هناك ما زال موضعاً للاستكشاف فأقل من 5٪ من قاع المحيطات تمت زيارتها حتى الآن، وخصوصا الجزء المسمى بحافة المحيط الواقع في وسط المحيط الأطلسي وشرق المحيط الهادئ.أسلوب حياةبصرف النظر عن عمليات الرصد التي نفذت في جرف خليج مونتيري، قبالة ساحل ولاية كاليفورنيا، لا نملك سوى القليل جداً من البيانات المتعلقة بالحياة في عمود الماء الواصل إلى الأعماق. ففي هذه المواقع، يتم تحديد نوعين إلى ثلاثة أنواع جديدة كل شهر. ولكن يقدر الباحثون أن هناك ما بين مليون إلى مليوني نوع لم تكتشف بعد في أماكن أخرى (أي ما يعادل تقريباً ما نعرفه على اليابسة)وبفضل الأجيال الجديدة من كاميرات التصوير المركبة على الروبوتات الجديدة يمكن للباحثين تصوير الأعماق باستمرار، وهم يأملون أن يفهموا على نحو أفضل أسلوب حياة الكائنات في هذه المناطق. ومن يدري، فربما نجحنا في يوم من الأيام في مشاهدة معركة أسطورية بين حوت العنبر والحبار العملاق. ونحن نعلم أن مثل هذه المبارزات تقع على عمق آلاف الأمتار تحت سطح البحر، لأننا وجدنا آثار جثث لهذا النوع من وحوش البحر. ولكن أحداً لم يتمكن حتى الآن من مشاهدة هذا الحدث لصراع الجبابرة.

مشاركة :