الحافّة... أنا لا أكتب سيرة ذاتية وإنما أعيشها

  • 1/17/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

عندما يُفَكّر المرءُ في كتابة سيرته الذاتية، فإن أولّ شيء يفعله هو: توخّي الكذب! يبدو ذلك طفولياً، نُغمضُ أعيُنَنَا ونكتب: «عِشتُ لأرويَ لكم تجربتي، تلكَ التي تمنيت أن أعيشها، في عالم نسَجَتهُ مخدتي، تلك التي لم أكذب عليها قط؛ لأنها وحدها من تكبد عناءَ قراءة أفكاري، وامتصاص خيباتي وكذبي كل ليلة، لتمنحني جرأة مطلقة في صباح اليوم التالي، كي أستعيد الشخص نفسه الذي غادرني عندما نمت». آه لو أن الأرواح تختلط وتمتزج وتضل طريقها بين السموات، فنصحو لنجد روحاً أخرى حطت رحالها في جسدنا المتعب، ثم شرعت في اكتشاف تعرجات الذاكرة، متخللةً مسام الجسد، ممزقةً غرف القلب لتخرج من بين الأضلاع، ثم تعاود الدخول عن طريق فتحات الأنف، فتدرك أن أوكسجين الحقيقة الذي يتنفسه هذا صاحبها المؤقت لم يكن كافياً قط لاحتواء حلمه، وتطهيره من بقايا الدنس. يا للمسكين! تفارقه، فتحل ثانية، وثالثة ورابعة، يظنّ الناس أنه أصيب بانفصام الشخصية أو بالتلبّس، بينما هو رازح تحت وطأة الاختيار، وقبل أن يُدركه الموت، يبتسم؛ فقد جرب خيباتِه كلها، ولم يَذق طَعم المثالية المنشودة التي مارسها عليه المجتمع المُنَزّه عن العيوب، يتمتم بوهن مؤشراً بأصابعه لهم أن «استمروا»، ثم يشكر رَبّه أن مكّنه من كتابة سيرة ذاتية مثالية، تُرضي مجموعَةً من الحَمقى المثاليين، يخلّدونه في محافلهم بعد وفاته. في لقائنا الأول قال لي إنني مُلبّية للحد المتوسط من توقعاته، والحد الأعلى من توقعات والدته، بعض الرتوش لتحسين شخصيتي، ثم أغدو امرأته المثالية التي يريد. أومأتُ برأسي، وأنتَ كذلك! إلا أنني لستُ في حاجةٍ لبذلِ أيّ جهدٍ لتحسينك، ابتسم واثقاً: لا تتعبي نفسك، أنا أول وآخر إصدار من الرجولة المطلقة في حياتك! لا بأس، عندما تعارفنا، لم يكن يدرك الاختلاف السافر بين المصطلحين؛ لأن أحداً لم يشرح له من قبل، ولم يكترِث هو لتبيان الفارق بينهما! أما أنا فلم أكن في حاجة فِعلية لبذلِ أي جهد؛ لا لكَونه مثالياً، بل لأنّ صِفته الوحيدة التي كنت أحتاجها في ذلك الوقت بالذات، كانت شَبَهَهُ بأبي، وقد وَجَدّتُها. انقضى على زواجنا خمس سنوات، وبينما كنت أكنسُ تحت المقاعد، عثرتُ على شيءٍ بدا لي كقطعةِ قُطن أو وَبر ضخمة، اتضح لي بعدها أنها كتلة من الغبار، من النوع الذي يتجمع فوق الخزن المهملة أو خلف قطع الأثاث بين الخشب والحائط. بقيتُ ساهمةً أمام هذه المادة الغريبة. هكذا انقضت ثمانية أو عشرة أسابيع وهي تعيش في هذه الدار. ورغم عنايتي أتيح لهذه الكرة أن تتشكل وتتضخم وهي قابعة في الظلام، هذه الذرة الصغيرة من الغبار كانت إشارتي الأخيرة: بداية التّخلي، ولكنها في الوقت نفسه، كانت تُغّني أنشودة الغبار المنتصر! مات أبي بعد هذه الحادثة بأيام، واستقبلتُ المعزيات بالأبيض، لقد امتصَّ برحيلهِ كل ما تَبقّى من حِبرٍ في دمي، وآن لي أن أبدأ صفحة جديدة بيضاء، أما زوجي ومعزياتي، فعبّرن عن ذلك بخليطٍ لَزجٍ من مشاعر التأثّر والدموع والتلميحات الجانبية. في عينيهِ ينفدُ الصبر، وفي روحي نار تَستَعِر، تغيرت ذائقتي في الأماكن، والأطعمة، والملابس، والعطور، كأن كل تلك الأرواح التي تناوبت على مخدتي سَكَنَت البيت دفعة واحدة وباتت تزاحمه على مكانه الضيق في حياتي ـ فيزداد ضيقاً! أنا لا أكتب سيرة ذاتية، أنا أعيشها، وهذا أمر مختلفٌ تماماً! يتبجَّحُ الغرباء بغربتهم، فيمارسون كل ما مَنعتهُم عنه البلاد، ولعلهم يتعلّقونَ بما لا يريدون، في محاولةٍ يائسة لتذوّق الطّعم الرائع للتجربة المَحضَة! وعلى ذلك جَرّبتُ أنا أيضاً، تناولتُ تلك الوجبة الشهية التي نَصحَني بها الجميع، ويا للعجب، فقد كانت بلا طعم! متخمةً بالمنكهات الصناعية والإضافات التي تُلوّن الرمادي المظلوم في الحياة كي يبدو رمادياً، كما يُراد لهُم أن يَروه فينكِروه! أتذكّر ألوان قوس قزح فلا أرى الرمادي بينها، ألوانٌ تحُضُّكَ على فِعل السعادة، إذا مزجتها جميعاً حصلت على الأسود، وإذا عسكتها حصلتَ على الأبيض! ثنائية لا مكان لثالث لها، ثنائية تُشبه رجلاً وامرأة اتفقنا على تقاسم حصتهما معاً: لكِ الأبيض التائه، ولي الأسود الذي يملأ كل شيء! وهذا ما كان. أنا، فضلت الرمادي، وعليه، لم أجِد لي مكاناً! بوسعي بعد أن وصلت إلى تلك اللحظة التنويرية العذبة أن أتفلَ على العالم بما يكفي لإغراق قاراته الست، لكنني بَلعتُ لساني، كمن أصابتهُ نوبةُ صَرع، ولمْ يَلمني أحدٌ ولم يرسلني زوجي إلى «فيليت»، غيابٌ مؤقتٌ ليس إلا أجرّبُ الموتَ لأحيا بحرية من لا ينتظرُ عزرائيل، ولا ينكرُ زيارته أيضاً. إذ ذاك قال لي أحدهم بأنه يحبني، وإنني تلك المدينة التي لا يسكنها إلاي، وقد جاءها من أقصى الأرض راجلاً بلا زاد ولا عدّة، سألته إن وصل متأخراً عن ميعاده قسراً أم أنه تعمد ذلك؟ فلم يجب، لكنه نظر إليَّ كَمَنْ ينتظرُ يداً تدفعهُ ليَهوِي مِنْ عَلٍ. يدي المشلولة، لن تنفعَه، وقبلَ أن أديرَ له ظهري وأغلق أبواب مدينتي، أجبته: المُحِبّ يلقي بنفسه أولاً مِن الحافة دونَ أن يَلتَفِت. رجعتُ إلى زوجي الذي أمَرني بالغياب لانشغاله بتصفيفِ شَعر الحياة ليلائِمَ مَسرّاتنا الصغيرة، وكَمَنْ بالَغَ في سَكبِ الدُّهنِ لترتيب الخصلات بعناية، كانت يداه غارقتين في رائحتها تماماً؛ لقد خانني! لو أن أحداً اتهمني بالغياب لأقررتُ بذلك، كنتُ أربّي في غيابي الأمل، وأعيدُ اكتشافَ العالم بعينين عمياوين فتحتهما بمشرط الذاكرة دون تخدير، ورغم ذلك لم أشعر بالألم، بل بالفوضى! بحُزمة من الضوء تزيدك عماءً، بأبيض لا يختلف عن الأسود إلا في اسمه، برمادي كثيفٍ يسقطُ على القلب حجراً ثقيلاً فيسحقه. أدركتُ أني تأخرتُ في حزم أمتعتي، وأنني ألقيتُ عصاي قبل أن أجرّبها في الطريق، صفّقتُ لخيانته، اشتريتُ له الورد والحلوى، وبطاقة كتبتُ له عليها: مبروك! لقد اجتزتَ الامتحان بنجاح، أنتَ رَجُلي المثالي! ثم ألقيتُ بنفسي من الحافةِ دونَ أنْ ألتَفِتْ.

مشاركة :