في بعض أحلامي أرى نفسي نائمًا. يرعبني ذلك أكثر من أي حلمٍ آخر: أن يحلم شخصٌ بنفسه وهو نائم، فذلك يعني أن ثمّة حلمًا ثانيًا، لن تتاح له الفرصةُ أبدًا ليعرفه. العمى ولدتُ ضريرًا، لكن الظلمة ظلّت تنسحب من عينيّ كلّما كبرت، ويزحف النور. كان الرعبُ قاتمًا كضوء، فيما أُدرك أنني يومًا ما سأستيقظ بعينين مفتوحتين. لم أكن أخشى أن أرى، قدر ما كنت أعرف أن عودة عينيّ ستجعل منّي مرئيًا، فنحن لا نرى إلا ما يرانا، وقد وطّنتُ نفسي منذ الطفولة على أن الضرير هو شخص كفّت عينا العالم عن رؤيته. فشل الأطباء، والوصفات المجرّبة، فشلت الأحجبة والأوراد وأدعية أمّي المكلومة، (التي كادت من فرط البكاء تستردّ بصرها)، في الإبقاء على ظلامي. حتى جاء اليوم الذي اضطررتُ فيه، لأوّل مرة منذ ولدت، أن أعبر الشارع دون يدٍ تحتضن يدي. بلا مُسمّى أنا اسمٌ لم يصبح شخصًا بعد، ذلك أنني الاسم الوحيد في الدنيا الذي لا يحمله أحد. جميع الأسماء نجت ولو مرة، عدا أنا، لأن أحدًا، ببساطة، لم يخترني أبدًا عنوانًا لابنه. رُشحتُ كثيرًا، ولمرّاتٍ لا حصر لها كنتُ قاب قوسين أو أدنى من دخولي خانة المواليد، لكن شيئًا ما كان يحدث كل مرّة، في اللحظة الأخيرة، ليؤجّل مجيئي للعالم. دائمًا كانت تتدخلُ إرادةُ شخص ما لكي لا أغادر رحمي. إنها مصادفة لم تتكرّر أبدًا سوى معي. يولد الشخص باحتمالاتٍ لا نهائية من الأسماء، لكن واحدًا ينتصر في النهاية، يصل قبل الجميع، وأحيانًا تكون جدارته في وصوله بعد الجميع. لكنّي من بين جميع أقراني ظللتُ لاعبًا خاسرًا في اللعبة الوحيدة التي يجب أن أربحها لكي أوجد. إنه صراع مرير وغير مرئي إلى أن يحصل شخصٌ ما على اسمه، يخوضه الآباء ضد الأمّهات، والاثنان ضد بقيّة الأهل، والجميع ضدّ مسجلي المواليد. إنّها الأسماء وهي تقود قطيعًا من البشر لتنتصر، في معركتها هي، إلى أن يحصل شخصٌ ما على اسمه، ومن بعدها يظلّ يحارب جميع الأسماء التي لا يُنادى بها. أنا ذلك الاسم الذي أخفق مرّةً بعد مرّة في العثور على من يحمله. لقد حُرمتُ حتى فرصة أن أموت، فمن أجل ذلك يجب أوّلاً، ولو لمرّة، أن أولد. بين وردتين (إلى أسماء حسين) كلّما ماتت أمُها أكثر، كانت تشبهها أكثر. كأنّها تكملُ لها ما كان يجب أن تكون حياتها القادمة، حياتها التي انقطعت فجأة بقرار سائق، وقد قرّرت أن تشيخَ نيابةً عنها بعد أن فقدت أملَ أن تشيخ فيها. فعلت ذلك لكي ترى ما حرمها الموت منه: عجزَ امرأةٍ هرِمة، تجاعيدها، وهنها، ظهرها المتقوّس، خيط البول بين وردتين في عباءة البيت، رائحة التراب فيها، مرض نهايتها، وكلّ ذلك الضعف الذي جُرِّدت من فرصة أن ترعاه، الضعف الذي يفتقر إليه دائمًا مصرعُ امرأةٍ شابة. لقد حرمها الموتُ هذا الضعف أكثر ممّا حرمها الحنان. ظلّت تكبر. ظلّت تشيخُ لأمّها ولا تموت. ظلّت تفعل ذلك حتى وصلت للسن الذي ماتت أمّها فيه، لليوم الذي لم يعقبه يوم جديد، وللساعة التي تجمّد بعدها الزمن. من بعدها بدأت تكمل الحياة، وحدها، باعتبارها مستقبل أمّها، حدّ أن الجميع صاروا يصرِّحون لها: «إنكِ هي إن عاشت.. أنتِ هي لو كتب اللهُ لها عمرًا». كلّ يوم جديد تعيشه كان تعويضًا، وقد أصبحت أمًا لطفلةٍ لم تولد. غير أن هذه كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن بها لطفلة أن تنتقم لأمٍ لن تعيش. كانت تعرف أنها تذهب بحياة امرأةٍ شابّة إلى أقصى نقطة. كانت تعرف أنها قاسية، ليس فقط لأنها عوّضت أمها بحياةٍ غير مجدية ستجعل الموت يتأخّر كثيرًا عن موعده بعد أن أتى أبكر من اللازم في المرّة الفائتة، لكن لأنّها عندما ستموت أخيرًا، ستكون أكبر من تلك الأم بسنواتٍ كثيرة، السنوات التي ستجعل من الشابة البعيدة، بالكاد، طفلتها.. كأنّ الأمومة لم تكن أكثر من كذبةٍ هشّة، كشَفها سائق وأخفتها مقبرة. قاطن الطريق أنا طريق، لكنّي كنت في ما مضى قاطع طريق. عرفت أكثر من أيّ شخصٍ آخر أنّ قاطع الطريق هو صاحب الطريق، وحده يقطنه، وحده لا يريده لكي يصل، وحده لا يريد له أن يكون دابةً يمتطيها. دون ندم، قتلت كلّ هؤلاء الذين اقتحموا ممرًّا في بيتي، فقط لأنّه يصل بين غرفتين. سلبتهم متاعهم لأنهم لم يستأذنوا مرّة قبل الدخول، لم يعرفوا أنّ للخلاء نفسه بابا ينبغي أن يُطرق. بالطريقة التي يشهر بها شخصٌ سلاحًا، يُشهر الطريق رجله، وقد ظللتُ تلك الآلة الحادة، ظللتُ ذلك النصل في قبضة التراب، ورحتُ ألتصق أكثر فأكثر بجسد حاملي، حتى جاء اليوم الذي استيقظت فيه لأتلقّى أقدام الآخرين فوق جسدي. كلانا ضيف الآخَر ذات يوم، وأنا بداخل الشقّة، قرّرت أن أطرق الباب. لدهشتي فتح لي أحدهم من الخارج، وسألني عمّن أريد بينما يطرد نومًا مزيّفًا يحمي به أصحاب البيوت أنفسهم عادةً من عيون الضيوف المستيقظة. رميتُ نظرة خلف كتفه، مثلما نفعل جميعًا عندما نطرق بابًا لنسأل عن شخص بينما نفتّش عن شخصٍ آخر. لم أر كتف امرأة مرتبكة يعبر بين حجرتين، ولا يدًا تخطف طفلًا عاريًا باتجاه الغرف. لم أر عجوزًا يُخفض ساقًا تيبّست فوق أختها، ولا مراهقًا يلمّ كراساته من فوق طاولة الأكل. رأيتُ سيّاراتٍ مسرعة، وإشارة مرور تبدّل ألوانها، رأيت بيوتًا ترتجّ من عبور قطار، وفتياتٍ يهربن من رعب النواصي. رأيت نهرًا ورجال شرطة، يتأمّل كل منهم الآخر، ولا يحول بين مواجهتهما إلا حائط هشّ من أجساد المراهقين. كانت مدينة كاملة محشورة في الممرّ الضيّق وراء باب بيتي، وكان ثمّة شخص يحدّق فيّ، فقط ليعرفَ أيّ اسمٍ في بيته جئتُ لأنطقه. مثله، بقيت أحدّق فيه منتظرًا بدوري سؤاله، وقد صار كلانا، أخيرًا، ضيفَ الآخر. ظللنا هكذا، بابين ينتظر أحدهما أن يُغلق الآخر أولًا. فقط كان يتحرّك في حيّز عتبته، متأرجحًا كبندول ساعة معطّلة، ليتفادى السيارات المسرعة من خلفه، فيما كنتُ، بالكاد، أميل بجذعي كلّ لحظة لأفسح طريقًا، كلّما عبر باب شقّتي جسدٌ ساكن، متبوعًا بصرخة.
مشاركة :