سؤال حيوي ومهم جدًا يطرحه الكثير من المواطنين ويمس حياتهم في كل ساعة من يومهم وهو: هل الماء الذي يصل إلى منازلنا ونستخدمه للشرب والطبخ صالح للشرب والاستعمال اليومي؟ في الحقيقة، أن المياه التي تُنتج في محطات التحلية عندنا في البحرين سواء من تحلية وتنقية مياه البحر، أو من تحلية المياه الجوفية شديدة الملوحة تكون من غير أدنى شك ذات جودة عالية وصالحة للشرب والاستهلاك المباشر للإنسان، ولكن المشكلة تكمن في أن هذه المياه التي يتم تحليتها في محطات تحلية المياه ليست هي المياه نفسها التي تصل إلى منزلك وتستعملها من خلال فتح الصنبور في البيت. فالمياه المحلاة الصافية النقية التي تنتج من مصانع التحلية تمر بعدة مراحل قبل أن تصل في نهاية المطاف إلى بيتك، فهي تنتقل من شبكات توزيع المياه ومن خلال أنابيب النقل والتوزيع، ثم تبقى فترة من الزمن في خزانات المياه العملاقة التي نراها منتشرة في مدن البحرين، وبعد ذلك تبدأ في رحلة جديدة عبر أنابيب النقل إلى مدننا وقرانا، ثم تنتقل إلى خزانات المياه عندنا في المنزل، وأخيرًا تصل إلى الحنفيات في بيوتنا. وعبر هذه الرحلة التي قد تصل إلى عشرات الكيلومترات في بعض الحالات في الأنابيب والخزانات العلوية والأرضية، قد تنتقل إلى هذه المياه المحلاة الشوائب والملوثات فُتعكِّر صفوها، وتؤثر في نوعيتها وهويتها، وتغير من جودتها وخصائصها. وهناك العديد من المصادر التي تتحمل مسؤولية تغير خواص المياه التي تصل إلى المنازل من خلال دخول بعض الملوثات والشوائب فيها. فالمصدر الأول هو المركبات التي تضاف إلى المياه لتعقيمها والتخلص من الجراثيم والبكتيريا والكائنات الحية الضارة الأخرى التي قد تسبب الأمراض للإنسان، وفي مقدمة هذه المواد غاز الكلور أو المركبات التي تحتوي على عنصر الكلور. فهذه المركبات قد تتفاعل مع مواد أخرى قد تكون موجودة في أنابيب المياه كالمواد العضوية، ما يحدث تفاعلا بينهما فتنتج من التفاعل مئات الملوثات الخطرة والسامة، وهذه الملوثات تنتقل عبر أنابيب التوصيل والنقل وقد تصل إلى منازلنا. والمصدر الثاني هو نوعية الأنابيب المستخدمة في التوزيع والنقل، والملوثات التي تنتج عنها تعتمد على المواد التي تصنع منها هذه الأنابيب، إضافة إلى المواد المستعملة في توصيل ولحم هذه الأنابيب بعضها بعضا عبر المسافات الطويلة التي تقطعها. ففي البحرين عادة ما نستخدم نوعين رئيسيين من الأنابيب المعدنية الحديدية لتوزيع ونقل المياه وهما الكربون الفولاذي أو الحديدي(carbon steel)، والحديد المطاوع (ductile iron)، وهذان النوعان يتكونان من الحديد بشكلٍ رئيسي، إضافة إلى العناصر الأخرى التي تضاف إليهما لإعطائهما الخصائص والمميزات المطلوبة، مثل الكربون، والمغنيسيوم، والمنجنيز، والكروميوم، والنيكل، والكوبالت، وغيرها الكثير من العناصر الأخرى، كما إن هذه الأنابيب يتم صباغتها وتغطيتها من الداخل بدهان خاص يعرف بدهان «الإيبوكسي» من أجل حمايتها من الصدأ والتآكل ونمو الكائنات الحية عليها من الداخل. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الأنابيب في بعض الحالات يتم توصيلها ببعضها باستخدام لحام الرصاص. ولذلك مع الوقت، وخاصة عند عدم وجود برنامج الصيانة الوقائية لهذه الأنابيب، فإن هذه العناصر التي تتكون منها الأنابيب قد تترشح وتدخل في المياه، إضافة إلى التآكل الذي يصيب هذه الأنابيب بعد مرور سنوات على استعمالها، فتدخل الملوثات الكيميائية والحيوية من جسم الأنابيب ومن الدهان الداخلي إلى مياه الشرب التي تصل إلى منازلنا. والمصدر الثالث المحتمل لتلوث مياه الشرب هو خزانات المياه، سواء تلك الخزانات الضخمة الموجودة في الأحياء والمدن أو الخزانات الموجودة في منازلنا، فهذه أيضًا قد يصيبها ما يصيب أنابيب المياه المستعملة للتوزيع والنقل، فتنتقل الملوثات منها إلى المياه التي نستخدمها في بيوتنا. وهناك كارثة صحية بيئية وقعت مؤخرًا في مدينة فلينت بولاية ميشيجن الأمريكية تثبت احتمالية التلوث من الأنابيب ومردوداتها العصيبة على الصحة العامة، فقد كانت هذه المدينة الصغيرة مسرحا حيا شاهده الجميع لهذه الحالة المهلكة التي ألمت بسكان تلك المدينة الوادعة والصغيرة، وخاصة الأطفال، حيث تسممت مياه الشرب بالرصاص القاتل نتيجة للتوقف في استخدام مركبات البولي فوسفات التي تمنع تآكل أنابيب الحديد من خلال عمل طبقة واقية داخل الأنابيب بدءًا من أبريل 2014، ما أدى مع الوقت إلى ترشح الرصاص من هذه الأنابيب التي تنقل المياه إلى المنازل، ومن ثم انتقال الرصاص إلى مياه الشرب ثم إلى الإنسان، ما اضطر حاكم الولاية في سبتمبر 2015 إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية في الولاية، ونتيجة لهول الكارثة على سكان فلينت خاصة والشعب الأمريكي عامة، تدخل الرئيس الأمريكي السابق أوباما شخصيا لطمأنة سكان المدينة المنكوبة من خلال زيارة المدينة والالتقاء بالمواطنين المتضررين. وذلك حفاظًا على صحة المواطنين وسلامتهم وتقديم مياه الشرب الصحية والسليمة لهم، فمن الضروري وضع برنامج للصيانة الوقائية لهذه الأنابيب من جهة والتأكد من العمر الافتراضي لهذه الأنابيب من جهة أخرى، إضافة إلى متابعة ومراقبة جودة المياه عبر طريقها الطويل في الأنابيب وعبر مسيرتها من المصدر إلى المستهلك، وأخذ عينات للتحليل الكيميائي والحيوي من المراحل المختلفة التي تمر بها حتى تصل إلى المنزل، فكلما طال الزمن على هذه الأنابيب فإن نسبة تآكلها تزيد وحجم الملوثات التي تترشح منها إلى مياه الشرب ترتفع مع الوقت، وكلما زادت المسافة التي تنتقل بها المياه عبر الأنابيب زادت نسبة الملوثات التي تدخل فيها. فتوفير مياه الشرب الصحية والصالحة لاستهلاك الناس حق رئيسي من حقوق المواطنين.
مشاركة :