باريس: ميشال أبو نجم لم يحسم المؤرخون حتى الآن هوية الشعب الذي أسس مدينة مرسيليا، ثاني المدن الفرنسية من حيث عدد السكان (850 ألف نسمة)، وبابها على المتوسط والعالم. وما زالت مدرستان تتناحران: الأولى تتمتع بالأكثرية وتؤكد أن بحارة يونانيين وصلوا إليها من مدينة فوسيه عام 600 قبل الميلاد هم من بنى فيها أول منزل. والثانية تزعم أن بحارة فينيقيين أسسوا فيها مركزا تجاريا على غرار ما فعلوه في البحر الأبيض المتوسط. ورغم خلاف المدرستين، فإن المتفق عليه أن هذه المدينة فتحت دائما عبر التاريخ ذراعيها للوافدين إليها مهما تكن هويتهم. ويكفي زائرها أن يترك قليلا حي المرفأ القديم ويتوغل في شوارعها الضيقة ليتأكد أن شهرة الضيافة التي تمتعت بها حقيقية، إذ إن عوالم متنوعة تعيش فيها جنبا إلى جنب ولكنها أحيانا تأبى الاختلاط. ربما هذه المزية هي التي جعلت مرسيليا مدينة الهجرة بامتياز. وتفيد الأرقام بأن 300 ألف من سكانها (35 في المائة) من أصول إيطالية و200 ألف من أصول مغاربية (23 في المائة). يضاف إلى هؤلاء السكان من أصول إسبانية ومشرقية، وخصوصا أفريقية، فضلا عن جالية يهودية يصل عدد أفرادها إلى 80 ألف نسمة، ما يجعل مرسيليا تحتضن ثالث أكبر جالية يهودية في أوروبا بعد باريس ولندن. هكذا تتبدى مرسيليا مثل موزاييك بشري وديموغرافي صهرته ثقافة أهل الجنوب المعروفين بحرارتهم فضلا عن لكنتهم المتميزة، بيد أن الصورة الرومانسية لهذه المدينة التي تستقبل الوافد إليها بحرا بهامة كاتدرائية نوتردام دو لاغارد، الجاثمة على أعلى تلة فيها، كما تستقبل نيويورك الوافدين إليها بتمثال الحرية، تتكسر عند احتكاكها بأرض الواقع. ذلك أن المدينة ليست كلاًّ منسجمًا، فأحياؤها البورجوازية وفيلاتها الفخمة المنتشرة من قصر فارو المطل على قلعتيها القديمتين إلى شاطئ برادو لا علاقة لها بما يسمى «الأحياء الشمالية». هذه الأخيرة ومناطق أخرى تجعل من مرسيليا المدينة التي تشهد أكبر نسبة من الإجرام في فرنسا لارتباطها بالمخدرات وسوقها المحلية بحيث لا يمر أسبوع إلا وتشهد المدينة عملية تصفية حسابات دامية تستخدم فيها الأسلحة النارية الفردية والأسلحة الرشاشة. المخدرات وفرض الخوات والكازينوهات غير الشرعية وعصابات السرقة والتهريب تضاف إليها آفة جديدة هي العنصرية المعادية للعرب والمسلمين والأفارقة... كلها آفات لم تنجح أية حكومة فرنسية كانت من اليمين أو اليسار في مداواتها. لذا، فصورة مرسيليا متناقضة حتى الجذور. من جهة، مدينة الشمس والانفتاح على المتوسط والعالم ورمز التلاقح، ومن جهة أخرى، مدينة الجنح والبغضاء وكره الآخر وتصفية الحسابات والانفلات من القانون. وقبل أشهر قليلة طالبت عضو مجلس الشيوخ ورئيسة بلدية الدائرة الثامنة في المدينة ساميا غالي، الجزائرية الأصل، بإنزال الجيش إلى شوارع مرسيليا وتحديدا إلى أحيائها الشمالية الساخنة لإعادة فرض الأمن وهيبة الدولة بدل التسيب وترك عدد من أحيائها تحت سيطرة رعاع القوم ومهربي المخدرات. وينطبق على هذه المرأة القول المأثور: «أهل مكة أدرى بشعابها». لذا فإن ما تقوله نتيجة تجربة حياتية يومية، إذ إنها نشأت في عائلة فقيرة وفي حي فقير وجاهدت وناضلت وانضمت إلى الحزب الاشتراكي وهي شابة في مقتبل العمر إلى أن وصلت إلى موقعها الحالي. هذه المدينة زارها أمس رئيس الحكومة مانويل فالس مصحوبا باثنين من وزرائه: وزير الداخلية برنار كازنوف ووزيرة التعليم نجاة فالو بلقاسم. وهدف الزيارة الاحتفاء بالنتائج الجيدة التي حققتها القوى الأمنية في ميدان الحفاظ على الأمن ومحاربة الجريمة المنظمة أو الفردية. وبحسب أرقام وزارة الداخلية التي استند إليها رئيس الحكومة، فإن الأعمال المخلة بالأمن تراجعت بنسب كبيرة. فالسرقات التي يستخدم فيها السلاح تراجعت بنسبة 30 في المائة والاعتداءات على الأفراد هبطت بنسبة 20 في المائة، كما أن الأجهزة الأمنية وضعت اليد في العامين الماضيين على أكبر كميات من المخدرات. وبسبب فالس فإن هذه النتائج تبين بوضوح رغبة الحكومة «في استعادة السيطرة على كل أحياء المدينة وشوارعها وإعادتها إلى حضن الدولة». المفارقة أنه صبيحة أمس استقبلت «مجموعة منظمة» زيارة رئيس الحكومة بطلقات في الهواء من رشاشات حربية من نوع كلاشنيكوف في أحد الأحياء الساخنة المعروف باسم «حي كاستيلان»، الأمر الذي أرعب المواطنين ودفع مديرية الشرطة إلى الإسراع بإرسال تعزيزات أمنية من قوى التدخل الخاصة في الشرطة. وما إن وصلت القوة إلى المنطقة حتى استهدفها رصاص المسلحين. وأفادت وكالة الصحافة الفرنسية بأن ما بين 5 و10 رجال هم من قاموا بإطلاق النار، الأمر الذي يشبه عمل فرقة كوماندوز. ولاحقا، استعانت قوة الشرطة بسيارة مدرعة للوصول ظهرا إلى داخل حي كاستيلان. وبحسب بيار ماري بورنيكيل، مدير الأمن في مدينة مرسيليا الذي كان على متن إحدى سيارات الشرطة، فإن رشقات الرصاص التي أطلقت استهدفت بوضوح وعمدا رجال الشرطة فأصابت إحدى السيارات رغم أنها سيارة رسمية. غير أن أحدا من أفرادها لم يُصَب. وفي أجواء من الخوف والقلق، عمدت الشرطة إلى إخلاء حضانة للأطفال وطلبت من تلامذة المدارس في المنطقة البقاء في مدارسهم، كما سعت إلى إقامة حواجز على مدخل الحي. كما قامت بعملية تفتيش أفضت إلى وضع اليد على مخبأ للأسلحة. وأفادت صحيفة «لا بروفانس» بأن الشرطة العدلية عثرت على نحو 10 رشاشات كلاشنيكوف. ولم يفد حتى بعد ظهر أمس عن القبض على أشخاص في العملية الأمنية. وقالت ساميا غالي إن مرسيليا «أصبحت مدينة رهينة» ووضعها «لا يطاق لأن السلاح الحربي يتداول فيها بكثرة وبعض الشبان فيها يتدربون على إطلاق الرصاص، الأمر الذي تحول إلى شيء عادي». والخلاصة أن مجموع هذه العناصر يفضي إلى «كوكتيل متفجر، حيث شباب الأحياء يريدون إثبات أنهم من يمسك بالقرار وليس الدولة»، ولفتت ساميا غالي إلى أن الكثيرين يريدون ترك هذه الأحياء التي لم يعد العيش فيها ممكنا. واستبق فالس وصوله إلى مرسيليا بإعلان أن هذه المدينة «يجب أن تحظى باهتمام أكبر من قبل الدولة»، كما وعد بتوفير المزيد من الإمكانيات لها، لكن المشكلة أن كل الحكومات المتعاقبة وعدت وهددت. والنتيجة أن مرسيليا بأحيائها الساخنة بقيت «صامدة» في تحدي الدولة. على صعيد متصل، أعلن رئيس الحكومة، في حديث إذاعة «أوروبا رقم واحد» أنه يتعين «محاربة خطاب الإخوان المسلمين في بلدنا»، وكذلك محاربة المجموعات السلفية في الأحياء الفقيرة. وأضاف فالس أن من واجب الدولة الوقوف إلى جانب المسلمين الفرنسيين الذين لم يعد باستطاعتهم تحمل هذا النوع من الخطاب أو اعتبارهم ممن يتبنونه، كما أنهم «لم يعودوا يطيقون الخلط بينهم وبين الجهاديين والإرهابيين، ولكن أيضا مع المتشددين والراديكاليين». وهذه المرة الأولى التي يندد فيها مسؤول فرنسي رفيع بالإخوان المسلمين، خصوصا أن أحد مكونات الإسلام في فرنسا والمتمثل باتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا واسع الانتشار، وكان إلى وقت قريب أحد الأطراف الموجودة داخل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي سعت الحكومة لإنشائه من أجل أن يكون صوتا للمسلمين وممثلا لهم. ويرأس المجلس حاليا عمدة مسجد باريس الدكتور دليل بوبكر. ويريد فالس أن يحارب فكر وخطاب الإخوان المسلمين عن طريق «القانون والشرطة والأجهزة الأمنية».
مشاركة :