لا ينجز الروائي شيئا في الجزيرة سوى هواجس وانطباعات عن الفن المعاصر، نسمعها خلال نزهاته من الفندق إلى المطعم، وتصبح كل تمشية محملة بالاحتمالات والأفكار، حول الأدب والفن، ومادية الجسد الذي تقع عليه مهمة احتضان كل هذا، وفي نص قصير عنوانه «التسكع في مانهاتن كفعل مقاومة»، يكتب «ماتاس» أن المشي ممارسة لم تستطع الرأسمالية القضاء عليها أو التدخل فيها. كما أن الكاتب السويسري «روبرت فالزر»، أصدر رواية «مشوار المشي»، ومن أجوائها: «أحيطكم علماً بأنني ذات يوم جميل، قبل الظهر، لم أعد أدري في أي وقت بالدقة، حضرتني رغبة في أن أتمشى، فلبست قبعتي، وغادرت غرفة الكتابة أو غرفة الأرواح، ونزلت على الدرج لأخرج بسرعة إلى الطريق».المشي تحت أشجار الكرز في الرواية، وسيلة بسيطة لتقدير جمال الربيع، يقول «فالزر»: «في هذا العام، مشينا ببطء إلى الأماكن المشهورة بالزهور، الشعب الياباني يحب الأزهار، والحفلات في ظل الأشجار، ومع ذلك هناك أكثر من طريقة للاستمتاع بوصول هذه الزهور في فصل الربيع، حيث يدخل السرور إلى قلوب الكثيرين بمجرد المشي والاتصال مع المناظر الطبيعية».وقد ارتبط موضوع الحركة على مدار تاريخ الفن والأدب بشخصية السائر(الماشي) المتنقل في المكان: الحاج، المسافر، الهائم، وتناولت الحداثة بشكل خاص موتيف السائر كتعبير في كثير من الفنون عن تمكن الإحساس بالحركة من خيال المبدعين، بكل ما يحمله هذا الإحساس من تساؤلات وحيرة، حيرة الفنان وحيرة شخصياته.وفي كتاب عنوانه «النص والصورة»، تشير الدكتورة سلمى مبارك إلى أنه إذا أردنا تعريف السير، فسنجد أنه انتقال من نقطة مكانية إلى أخرى عبر المرور بطرق وأماكن، يشكلها السائر كما تشكله، يعطيها ماهيتها الوجودية من خلال العلاقة التي يقيمها معها، وتمنحه في مروره بها فضاء يطلق فيه العنان لتساؤلاته وحيرته، فالسير خروج من الذات ونزوع نحو العالم، وهو بإيقاعه المنتظم، وخلقه جدلاً بين الحركة والفراغ، وقدرته على امتصاص الواقع، يعمل على خلق نظام مضاد لاضطراب السائر.كان الفيلسوف الفرنسي «جيل دولوز»، يرى أن التجوال وحدة بنيوية مؤسسة لنمط السرد المرتبط بالصورة الجديدة، إلا أن هذا الموضوع له تراث أدبي وفني قديم بدأ من منتصف القرن التاسع عشر، وبالذات مع بودلير في شعره عن مدينة باريس التي كانت خير شاهد على تطور شكل المدينة الحديثة، فمع إعادة تخطيط المدن القديمة، أصبح تفقد المكان الجديد هدفاً للسائر المشدوه بالحركة الحديثة وصخبها، لدرجة جعلت من هذا السائر عند فالتر بنيامين رمزاً لمجتمع وعصر بأكمله، حيث رأى أن تصوير الحركة العادية للسائر أصبح له جماليته الخاصة وعالمه الرمزي الموازي.
مشاركة :