أشار تقرير منشور في الثالث عشر من يناير الجاري إلى أن «الصين أنفقت حوالي 23 مليار دولار خلال العام الماضي من أجل الاستثمار في موانئ عالمية تقع على المحيط الهادئ والبحر المتوسط وأجزاء من المحيط الأطلسي تلك التي تصل بين موانئ صينية وأوروبا، فضلاً عن جنوب المحيط الهادئ»، ومع التسليم بأن تلك الجهود الصينية تعد تنفيذاً لمبادرة الحزام والطريق، فإنه يمكن قراءتها في سياقات أخرى ترتبط بتحولات النظام العالمي الراهن من ناحية، والصراع الإقليمي في بحر الصين الجنوبي من ناحية ثانية، فالمتتبع لجهود الصين التي تستهدف الاهتمام بتطوير قواتها البحرية خلال السنوات القليلة الماضية يجد أنها قد شهدت تطوراً هائلاً إلى الحد الذي تؤكد فيه العديد من التقارير سعي الصين لأن تكون من أقوى الجيوش البحرية على مستوى العالم، وذلك تنفيذا لما تضمنه الكتاب الأبيض الصادر عام 2015 والذي تناول بشكل مفصل أهداف الاستراتيجية البحرية للصين ومن بينها العمل خارج المناطق التقليدية للصين ومنها المشاركة مع القوات الدولية للتصدي لمخاطر القرصنة قبالة سواحل الصومال، وما تلا ذلك من خطوات تؤكد سعي الصين الحثيث لتعزيز قواتها البحرية بشكل ملحوظ ومنها الإعلان عن أول حاملة طائرات صينية الصنع خلال العام 2018، ووجود بعض التقديرات مفادها أن الأسطول القتالي الصيني سوف يصل إلى 415 سفينة عام 2030، بل استحواذ تلك القضية على اهتمام صانع القرار في الصين، ففي الثالث عشر من أبريل2018 وقبيل بدء الصين مناورات بحرية ضخمة في بحر الصين الجنوبي قرب تايوان قال الرئيس الصيني شي جين بينج إن «الحاجة لإقامة بحرية قوية لم تكن أشد إلحاحا مما هي عليه اليوم»، فضلاً عن قرار الصين في سبتمبر 2018 تشكيل قوات خاصة تابعة للجيش من أجل مكافحة الإرهاب لديها القدرة على تنفيذ مهام سواء داخل البلاد أو خارجها، بالإضافة إلى تأسيس الصين أول قاعدة عسكرية للصين خارج حدودها في جيبوتي عام 2017. ومع أن الصراع الإقليمي في المحيط الهادئ بين الصين وحلفاء الولايات المتحدة يقدم الكثير من التفسيرات لحرص الصين على تطوير قدرات بحرية متقدمة، ومنها إعلان اليابان عن تشكيل أول وحدة من مشاة البحرية «المارينز» من أجل حماية الجزر البعيدة والتي تضم حوالي 2100 عنصر من القوات البحرية وربما تكون قابلة للزيادة خلال السنوات القادمة، فإن قرار الصين الاستراتيجي بتعزيز قوتها البحرية يستند من ناحية أخرى إلى تطور الرؤية الصينية لتهديدات الأمن القومي والتي يجب ألا ترتبط بنطاقات جغرافية تقليدية في ظل ما يشهده بحر الصين الجنوبي من صراعات ترتبط بشكل أساسي بموازين القوى في تلك المنطقة. ومع أهمية ما سبق والذي يمكن تفسيره في سياق نظام عالمي ليس فقط سريع التحول بل التأكيد على أن الصراع البحري سيكون أحد أهم ملامحه في ظل استمرار اعتماد دول العالم كافة على البحار في التجارة العالمية وأهمية تأمين طرق المرور الحيوية لتلك التجارة، ومع الأخذ في الاعتبار ما كتبه روبرت كابلان وهو أحد الكتاب المتخصصين في دراسة تأثير العوامل الجغرافية على سياسات الدول وله مؤلفات عديدة جديرة بالاهتمام حيث قال في دراسة أوردتها مجلة الفورين بوليسي الأمريكية إن «الصين لديها القدرة على إبعاد سلاح البحرية وسلاح الجو الأمريكيين عن غرب المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي والشرقي، وأن الامتداد البحري للصين يؤهلها للتوغل بشكل أكبر في المحيطين الهادئ والهندي»، ومع أهمية ذلك التصور فإنه لا يعني أن العالم بصدد مواجهة عسكرية بحرية إذ إن حقبة ما بعد الحرب الباردة دائماً ما توصف بكونها «الصراع المنضبط» بما يعنيه ذلك أنه بغض النظر عن التصريحات المعلنة والتي تبلغ ذروتها أحيانا بما قد يوحي بإمكانية وقوع صدام مباشر بين القوى الدولية عموما إلا أن هناك حسابات مختلفة للدول وما يؤكد ذلك أمران الأول: توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الصيني شى جين بينج اتفاقا في ديسمبر 2018 وبموجبه تم وقف تطبيق الرسوم الجمركية المتبادلة مدة تسعين يوما لإتاحة الفرصة لإجراء المزيد من المحادثات بين الجانبين، والثاني: الزيارة التي قام بها الأدميرال جون ريتشاردسون قائد العمليات البحرية الأمريكية للقاء نظيره الصيني خلال الفترة من 13 إلى 16 من شهر يناير الجاري، ووفقا لما هو معلن فإن الهدف من تلك الزيارة يتمثل في «الحد من المخاطر وتجنب الحسابات الخاطئة» والتي تعد الزيارة الثانية للمسؤول الأمريكي للصين من أجل الغرض ذاته. ومع التسليم بما سبق ينبغي التأكيد على أمر مهم مفاده أن الاقتصاد دائماً هو قاطرة السياسة ومن ثم في ظل مساعي الصين لتعزيز اقتصاداتها ومنها تعزيز التبادل السياحي مع الدول التي تقع على طريق الحرير البحري، حيث ازداد عدد السائحين من وإلى الصين لتلك الدول خلال السنوات الماضية بصورة ملحوظة فإن ذلك يعني أنه حتى لو أن فرضية الصدام العسكري بمعناه التقليدي ظلت أمراً مستبعداً طالما أن جميع الأطراف لا تزال بعيدة عما يمكن تسميته «بالخطوط الحمراء» فإن الاعتبارات الخاصة بالدور الخارجي للصين ضمن تفاعلات النظام الدولي الراهن، بالإضافة إلى وجود مصالح إقليمية لدى الصين تسعى للحفاظ عليها على امتداد الموانئ البحرية المهمة في العالم سوف تظل حاضرة وبقوة، وخاصة في خضم التحولات التي يشهدها النظام العالمي الراهن سواء إعلان تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في بعض مناطق الصراعات -والذي لن يطول منطقة الشرق الأوسط وفقا للتصريحات الرسمية الأمريكية- فإن المسألة التي قد ترتبط بإمكانية حدوث فراغ تسعى قوى أخرى للاستحواذ عليه ومنها الصين وروسيا، فإنها في الوقت ذاته تتضمن تعزيزاً للمصالح والشراكات الاقتصادية في الوقت ذاته التي ترتبط ارتبطا وثيقا بالأمن القومي لأي دولة وكانت سببا لاندلاع صراعات ممتدة خلال حقب مختلفة من التاريخ وجميعها تطورات جديرة بالاهتمام والمتابعة. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة
مشاركة :