الرِدْة الفكرية والثقافية خواء أم جفاء

  • 1/22/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

تقف اليوم الدولة في عالمنا العربي والإسلامي، رغم إمكانياتها الضخمة، عاجزة عن توفير الدرع الواقعي لحماية وحفظ هويتنا الثقافية والفكرية العربية والإسلامية المميزة، فهي أي الدولة يغيب عنها التوجه الإستراتيجي المستقر في حفظ هذه الهوية، ويرجع ذلك لجملة من الأسباب والعوامل التي يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور أساسية وهي:١- حالة التذبذب والتناقض التي تسود التوجهات العامة للدولة، فتارة تنحاز لجذور هويتها ولإرثها الفكري والثقافي الصلب، فتتبناه في مناهجها التعليمية وبرامجها الإعلإمية وتسطره مدوناتها ووثائقها التشريعية والتنظيمية، وتارة تتجرد الدولة عن ذلك، إذ تنسلخ جزئيا أو كليا عنه، وتكرس ثقافات مستوردة أو طارئة تماشيا مع انطباعات شخصية أو تجاذبات سياسية ملحة في مرحلة من المراحل، وهو ما يعيش فيه المجتمع حالة اغتراب وتناقض متبادل بين الفينة والأخرى.٢- حالة الانكسار الثقافي والانهزام الحضاري أمام القدرات الغربية الهائلة الذي يلحق بالدولة، فلا تقوى على التمسك بثوابتها ولا حماية هويتها، تحت الضغوط والتأثيرات المباشرة للغرب إما انبهارا وضعفا أمام الدول الغربية ونظمها ومؤسساتها التي تُمارس حضورا ماسخا لهويتنا الفكرية والثقافية، أو اندفاعا واستسلاما مع الانجذاب للسطوة الثقافية للغرب والسير بركبه وترويج وتقليد منظومته الفكرية والثقافية.٣- حالة التجربة والخطأ وتلمس مسار ثقافي وفكري للدولة والشعب خارج سياق المسار الطبيعي للجذور الثقافية والفكرية للمجتمع والدولة، اعتقادا بأن تبني مسار لأمم ودوّل أخرى يوفر استقرارا للنظام من جهة، ويحقق طفرة نوعية في التنمية والبناء من جهة أخرى، ولذا فإننا في العالم العربي والإسلامي جربنا كل أنماط الثقافات والأفكار التي مرت على الأمم الأخرى، فكان نتيجتها مزيدا من التراجعات والضياع والشتات ليس على مستوى الأمة فحسب، بل حتى على مستوى كل دولة منفردة، وهو ما خلق حالة مستمرة من الفراغ الثقافي والفكري المخيف. وأمام هذا الوضع الذي غدت عليه حالة الدولة في عالمنا الاسلامي، فقد نشأت في أعطافها حالات متزايدة من الانسلاخ الفكري والثقافي للأفراد وبعض المجاميع التي بدأت تخرج على شكل رِدْة فكرية وثقافية ناشئة عن خواء أحيانا، وربما عن جفاء أحيانا أخرى. فهناك أطروحات جريئة ومؤسفة بالتطاول على الذات الإلهية من شخصيات تتبوأ مواقع ومسؤوليات مجتمعية مهمة ويفترض فيها أنها تسهم ببناء ثوابت الدولة والمجتمع، بل هناك ثقافة للتغريب والتنصل عن الدين والمعلوم منه بالضرورة، وهناك محاولة لخلط المفاهيم الصحيحة للدين ببعض الإطروحات الشاذة لتعجيل هدم مسلماته الثابتة، بشأن وجوبية الحجاب والترويج بعدم وجود آية في القران تنص على الحجاب، وهناك من يحاول إلغاء السنة النبوية من مصادر التشريع، رغم التأكيد الصريح عليها بأيات قرآنية، وهناك من يحاول تفصيل الدين بمسلك جماعة أو مجموعة واعتبار كل حيدة عنها ليست من الدين، وهو في حقيقته إلغاء صريح لسعة الإسلام وتعدديته التي جعلت من اختلاف الأمة وتباينها رحمة، وهناك تحول عن الوحدة العربية والإسلامية، بل وهناك تحريض على إجهاض أي مشروع او حتى أطروحات وحدوية، وهناك من يحاول شطب فلسطين والمسجد الأقصى من عمقيهما العربي والإسلامي، وتحويل الأمر لقضية دولة قُطْرِية فقط، هذا ليس كل شيء بل هذه بعض مظاهر الردة الفكرية والثقافية التي بدأت تتسلل لمجتمعاتنا الاسلامية، في ظل غياب الدولة وأدوارها وإمكانياتها في حفظ هوية مجتمعاتنا عن تقليد وضعف واستسلام نتيجة للخواء ، ويروج لكل ذلك أحيانا تحت غطاء علمانية الدولة وأحيانا تحت شعار الليبرالية السياسية والاجتماعية، وثالثة تحت صيحات تحرير العقل والتخلص من النقل والانفتاح على المجتمعات الغربية والسير في مدارها، رغم أنها  -أي الدول الغربية- تعزز انتماءها الديني وفِي الوقت ذاته تتنكر لعلمانيتها وليبراليتها المزعومة، فهم يرغبون أن يَرَوْن الانسلاخ عن الهوية الإسلامية والعربية تزرع بمجتمعاتنا حتى يستمر ضعفنا وتسهل مهمة السيطرة على دولنا. إن الرِدْة الفكرية والثقافية، سواء كانت عن خواء أم عن جفاء تشكل منحنى مدمرا لأمتنا الإسلامية ومجتمعاتنا تقع مَسؤولية التصدي له على عاتق الدولة التي أصبحت للأسف غائبة عن كل ذلك. أ. د. محمد عبدالمحسن المقاطع dralmoqatei@almoqatei.net@al_moqatei

مشاركة :