شاركتُ في المائدة المستديرة، التي عُقِدت في جامعة بوردو في الجمهورية الفرنسية، منذ أيام، تحت عنوان «جهود المفكرين في مواجهة الأيديولوجيات المتطرفة»، وذلك بمشاركة نخبة من المفكرين والأكاديميين والخبراء البارزين المتخصصين بهذا المجال، وعلى رأسهم سعادة الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي، والذي أشادت التداخلات بمسيرته ودور كتابه «السراب» في نشر الوعي وبناء عقل حضاري متنور. وتناولت الندوةُ موضوعات على درجة كبيرة من الحيوية، ومن بينها أهمية الفكر في مواجهة التطرف والإرهاب، ودور المفكرين في محاربة انتشار التطرف، والدعم الذي يحتاجه المفكرون في مواجهته، ومحاربة الفكر المتطرف بالأفكار المعتدلة. وقد أشرت في تدخلي إلى أن الإرهاب العالمي لا دين له ولا ملة، وأصبح اليوم من أخطر الفاعلين في النظام العالمي، كونه يأتي على الأخضر واليابس، يضع للظلم والانتهازية والتقتيل عناوين أيديولوجية، ويعطي للجشع والانحراف هالة من الخرافات، ويجعل سفك الدماء قاعدة مبررة بالأيديولوجيا. يستفيد الإرهابيون اليوم من فشل بعض الدول في تسيير الشأن العام وبناء نظام سياسي موحد، ويستفيدون من العولمة التي تجعل الجميع يعيش في قرية واحدة، حيث باتت منصات وسائل التواصل الاجتماعي، مثل «يوتيوب» و«فيسبوك» و«تويتر»، تقوم بالدعاية لأيديولوجيتهم. ومما يزيد الطين بلة أن «الإرهاب المجالي» الذي نراه في بعض المناطق هو نتيجة لإرهاب لا مادي ولا مجالي مبني على الإقناع الأيديولوجي وعلى الشعارات السياسية الخاطئة وعلى الصيغ الهلامية التي لا تناقش بالعقل، بل تتوالى وتنتشر بنهج الإعلان ولا تعترف بالحدود، وهو ما يفسر العمليات الإرهابية الفردية في العديد من الدول الغربية. وقد دعوت إلى ضرورة تجديد آليات الخطاب الإعلامي ووظائفه، وتأهيل الكفاءات الإعلامية تأهيلاً يتوافق مَعَ الثورة الإعلامية الجديدة القائمة على استثمار الفضاء التكنولوجي ووسائط التواصل، ليضطلع بدوره التنويري الجديد لمواجهة الخطاب الظلامي المتزمت. ولابد في هذا الباب من تفعيل القوانين والتشريعات التي تجرِّم الكراهية وتبثّ الفُرقة في المجتمع. ونظرًا لما يشكّله الدين من أهميّة في حياة الإنسان، فإن تجديد خطابه وتأهيل الدّعاة يغدو ضرورة لإبراز وسطيّته واعتداله وإشراك فاعلين جدد يعملون عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لدعم عمل الأئمة في المساجد ومن يحظون بالشرعية الدينية والمصداقية. كما أكدت ضرورة القيام بحملة للتوعية والتأطير الذكي في الوسط السجني الذي يشكل حقلاً خصباً لانتشار الأيديولوجيات المتطرفة، بهدف إقناع الملوثة عقولهم بالتخلي عن المفاهيم المغلوطة.. وعلى وضع برنامج زمني لاستراتيجيات مواجهة الفكر المتزمت، وتقييم مخرجاتها ومخرجات الخطط التنموية بشكل دوري. فالسجون قد تتحول في بعض المجتمعات إلى جامعات إرهابية فعلية، حيث يلعب الراديكاليون دور الأساتذة، وباقي السجناء دور الطلاب، أما سلطات السجن فتلعب دور الحارس الغائب. ولا جرم أن هذا السيناريو يحير المعنيين حالياً أكثر من أي وقت مضى. ومن التساؤلات التي يثيرها المسؤولون: كيف يمكن التعامل بصرامة مع التطرف دون خلق المزيد منه؟ وتبقى المشكلة كما هي: السجون معاقل للتطرف في انتظار شرارة واحدة للانفجار! ومعنى هذا الكلام أن السجون بدورها لا تسلم من وجود إرهابيين ومتطرفين ومتزمتين، وأن وضع مراقبات دائمة لتحصين من سلموا من هذه العاهة الفكرية مسألة مصيرية. وبمعنى آخر، لا يكفي استئصال الإرهابيين والسفاكين الملوثة عقولهم وقلوبهم، محبي الدماء وقطع الرؤوس فحسب، بل يتعين التأثير على عقول البشر حتى السجناء في سجونهم. إن التطرف المولِّد للإرهاب بكل أشكاله يتولد في العقول ولا علاج له إلا من خلال الاستثمار الأمثل والذكي والصارم في العقول أيضاً، ويجب أن تشهد مجتمعاتنا العربية والغربية ثورة ضد كل الأفكار الظلامية والعقول اللاحضارية وخلق عقل ناهض لقواعد ناهضة تبني وتشيّد، انطلاقاً من ضرورة استعمال العقل والحكمة في الحال والمآل.. وهذا هو المطلوب.
مشاركة :