كان من الممكن أن يختاروا أغنية "المال، المال، المال" Money, Money, Money، أو "بنسات من السماء" Pennies from Heaven، أو حتى "ثلاث عملات معدنية في نافورة" "Three Coins in a Fountain. إلا أنهم لم يفعلوا. عندما اختارت دائرة سك العملة في أوساكا اللحن الذي تعزفه العربات الروبوتية أثناء تنقلها في موقع الإنتاج، حاملة أكياسا من العملات المعدنية المسكوكة حديثا، اختارت أغنية Camptown Races. الأغنية التي شدا بها المغني الأمريكي ستيفن فوستر (1826 ـ 1864) تضفي جوا مفعما بالحيوية على المؤسسة الموقرة التي ينبغي، من الناحية النظرية، أن تشعر بأنها محاصرة. وضعت الحكومة اليابانية نفسها في عداء صريح تجاه النقود، معلنة عن طموحها مضاعفة معدلات المدفوعات غير النقدية بحلول عام 2025 وتغيير عادات الشعب الذي تقدر مجموعة بوسطن الاستشارية أنه يستخدم النقود الفعلية في 65 في المائة من تعاملاته التجارية. تبدو العملات المعدنية بشكل عام عرضة لخطر هذا الهجوم الرقمي. الضحية الأولى، كما توقع أصدقائي الشباب في طوكيو وهم في سعادة قصوى، ستكون العملة فئة واحد ين – عملة صغيرة جدا في قيمتها لايمكن استخدامها للشراء من آلات البيع، وخفيفة جدا لدرجة يمكن أن تطفو على سطح الماء. يبدو أن زوال قطعة الألمنيوم هذه التي تزن جراما أمر لا مفر منه. لن ينتج مصنع سك العملات المعدنية، بناء على بطء الطلبات من بنك اليابان، أي عملات معدنية جديدة من فئة الين الواحد للتداول في العام المالي 2018. زيادة ضريبة الاستهلاك المقررة هذا العام (من 8 في المائة إلى 10 في المائة)، والوعد بأن تكون الأسعار ذات أرقام دائرية (خالية من أجزاء العملة الصغيرة) في صناديق المحاسبة، يمكن أن يؤدي إلى الضربة القاتلة. لكن هذه العملات الخفيفة، التي لا قيمة لها تقريبا، قد تحدث مفاجأة. يمكننا معرفة السبب وراء حرص السلطات على التشبث بما سمته "رؤية غير نقدية". يعتقد معهد نومورا للأبحاث أن إجمالي التكلفة السنوية على اليابان من التعامل بالنقود تعادل 15 مليار دولار تقريبا، ويشمل ذلك عمليات وبنية تحتية تعتمد بشكل كبير على قوة عاملة متقلصة. استخدام اليابان للنقود - ضعف معدل الاقتصادات المتقدمة الأخرى الذي يبلغ في المتوسط 32 في المائة - يمنح أجزاء كبيرة من الاقتصاد غموضا تكرهه الحكومات بشكل غريزي، لاعتقادها أنه يخفي التهرب الضريبي المتفشي. غير أن الخوف الأوسع يتمثل في أن بطء اعتماد اليابان للأنظمة غير النقدية ينطوي على تكاليف تترتب على كل من الفرص والسمعة. يتعين على المصارف وشركات التكنولوجيا المالية أن تكون في طليعة لعبة الدفع الرقمي من أجل مصلحتها الخاصة، وتريد البلاد أن تحافظ على صورتها بلدا متقدما بقوة عندمـــا يأتـــــــي إليـــه العـــــالم في أولمبياد 2020 مع بطاقات ائتمان جاهزة للاستخدام. من الآن، يقدر محللون أن نحو 60 في المائة من المطاعم في طوكيو لا تقبل سوى المال نقدا. حتى المحال التجارية الكبرى لا تقبل الدفع بواسطة البطاقات المصرفية. كثير من العيادات الطبية، بعد أن تقدم للمريض علاجات يمكن أن تكلف أكثر من 500 دولار، يهز العاملون فيها رؤوسهم رفضا للدفع بالبطاقات المصرفية ويوجهون المرضى إلى أقرب صراف آلي. على الرغم من أن اليابان كانت رائدة في تكنولوجيا رقائق الدفع "بدون لمس" في البطاقات المصرفية (وبعد أن طرحت بعض التطبيقات التي حققت نجاحا باهرا في مجال وسائل النقل العام)، إلا أنها تخلفت أميالا عن الصين وكوريا الجنوبية من حيث اعتماد الأموال الإلكترونية. مؤيدو "الرؤية غير النقدية" يدركون جيدا أنه حتى مع بعض الحوافز التي يضعونها في الحسبان لمتاجر التجزئة والمطاعم، لن يكون من السهل إحداث تحول ثقافي على مستوى البلاد بعيدا عن النقود. فكبار السن، الآخذين في التزايد، من السكان ليسوا متلهفين للابتكار، وهذا أمر طبيعي، والظروف التي تزيد من الميل إلى حمل النقود (انخفاض جرائم الشوارع، وانخفاض أسعار الفائدة، وانخفاض الحد الأقصى لضريبة الميراث) لا تزال قائمة. لكن هذه ضمن عديد من التفسيرات الفنية لشيء أكثر عمقا. اليابان تحب النقود لأنها تحب كل ما يرمز إليه: عدم الكشف عن الهوية، وسهولة الحمل، والقدرة على التكيف مع الزلازل، عدم الثقة في المصارف، والإحساس بالملكية. بالنسبة إلى إيمان اليابان المعلن بالسلطة والالتزام بالقوانين وشعور المجتمع بالتماسك، إدمان النقود يشير إلى شيء أكثر تهكما. تدل هذه المعدلات المرتفعة لاستخدام النقود على رفض التخلي عن الحرية التي لا يستطيع كثير من أصدقائي اليابانيين، الأكبر مني سنا، التصديق بأنه تم التخلي عنها بسهولة في أماكن أخرى من العالم لمصلحة البلاستيك والسيليكون ورموز الاستجابة السريعة. ربط الصين المقترح بين أنظمة الدفع الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي والتسلسل الهرمي "للائتمان الاجتماعي" يجلب على اليابانيين بالضبط ذلك النوع من الرعب التي يبرر إبقاء المحفظة مليئة بالأوراق النقدية. المقاومة الشعبية للرؤية غير النقدية ستكون كبيرة. لن يتم تسليم ساحات المعارك الأولى، مثل فئة الين الواحد، بسهولة.
مشاركة :