سامية عيسى تعيد فلسطينيي الشتات إلى أنفسهم

  • 2/12/2015
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

يواصل أهل «أحمد العربي» حتى بعد موت مبدعه نزف أناهم ومن يكونون بين سطور «خلسة في كوبنهاغن» (دار الآداب). لكنهم في رواية الكاتبة الفلسطينية سامية عيسى وبعد أن ضاق بهم وبأحمدهم ما بين المحيط إلى الخليج، حيث أعدت لهم الرماح وانتخبت لهم المقصلة، نراهم مرغمين على شتات جديد. يرحلون بعيداً من جوار عشتار الفلسطينية وشمسها الدافئة إلى صقيع الدنمارك البارد. لكنهم قبل رحيلهم يروون ما مر بهم من أهوال إبان حرب المخيمات في لبنان وبعيدها: صديقة تنبش نفايات مخيم «صبرا» لتطعم أطفالها، أولاد زوجها «الشهيد البطل»! وتضطر إلى بيع جسدها في دبي لتبقيهم على قيد الحياة في مخيمات بيروت، عمر شقيق ثلاثة شهداء وفقيد ذاكرة تضيع في حادث ليصبح عاموس ابن اليهودي الأميركي، فاطمة الجدة الشجرة وسليلة صفد تترمل ويستشهد أبناؤها الثلاثة ثم يختفي رابعهم بلا أثر، حسام الحفيد يكبر قبل أوانه ليعيل جدته وإخوته الأيتام، إنعام البريئة يدنس أوغاد تلك الحرب القذرة رحيقها المختوم. تقدم سامية عيسى عبر طرح جريء ومميز تفاصيل جديدة لمأساة هؤلاء في شتاتهم المتواصل. فهي تقص باقتدار ما يجري لهم في الشتات الاسكندنافي. ينزفون في مخيم «جرين لاين» النرويجي، أقصى نقطة إلى شمال الكوكب، ما تبقى من كرامة إنسانية في عروقهم. يتبولون ويتغوطون في ملابسهم وقوفاً في طابور الانتظار الطويل أمام المرحاض العمومي الوحيد. يتقوقعون على أنفسهم ويعيشون في «غيتو» طوعي بانتظار العودة إلى أرض الحلم وحكايات الجدات. وكيف يدفع الغضب المعشش في عظام الأمهات والآباء والأجداد إلى انخراط مجموعات شبابية من أبنائهم الذين ولدوا وترعرعوا في الدنمارك في العنف والجريمة. وهنا فإن سامية لا تبرئ الحكومة الدنماركية من وزر ما يجري في بلادها ذلك أنها «لم تكلف نفسها عناء وضع برامج مناسبة لدمج اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا بحاجة إلى ما سوى البيت والمعونات». تحفر الكاتبة عميقاً في مفهوم الشتات وحق العودة وتغوص في التركيب النفسي للاجئ الفلسطيني. وهي هنا وبحق شجاعة في الطرح وتستحق كل التقدير على الخوض في سؤال العودة الشائك بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع آرائها. إذ إن معضلة العودة تلقي بظلالها على عقول الفلسطينيين وتبلبلهم وتدفع كثيرين منهم في الشتات للعيش بارتباك في البرزخ، لا موت ولا حياة. أصبح الشتات لديهم زمن انتظار متطاول وتجمدت الحياة لديهم إلى حين العودة. صار اندماجهم في أماكن وأزمان أخرى شاقاً وعصياً. ولهذا فإنهم يضطرون أحياناً إلى اختلاس أوقات يعيشون فيها خارج برزخهم، يتقبلون فيها الواقع بمرارته وجراحاته لكنهم يحيون حقيقة من هم وما يريدون أن يكونوا في تلك الأوقات المسروقة خلسة من زمن الشتات. لكن حسام بطل الرواية يقرر أنه لا يريد قضاء حياته في لحظات مختلسة. يصر على إنهاء شتاته وتحقيق عودته بالعودة إلى ذاته وكينونته أولاً، إذ لا خوف على العودة من النسيان فهي الجين الإضافي في المحتوى الوراثي لكل فلسطيني. كما أن فلسطين، أو أي بلد آخر، عندما ننظر إليها كفكرة ننتمي إليها قبل أن تكون أرضاً فإنها تصبح حرة وتحرر أبناءها معها. وحينها يغدو ممكناً لأي كان وأينما كان أن يحرثها ويزرعها ويتملكها. ففلسطين في هذا الزمن المتحول والمتعولم الذي همش المسافات ومسح الحدود بين البلدان باتت في متناول طفل يجلس أمام شاشة حاسوب حتى لو كان في القطب الشمالي. يعزم حسام على لملمة شمله أولاً مع ذاته الإنسانية وتحقيق وجوده كإنسان «لا كحسام حفيد الحاج خليل من صفد» لأن هذا هو الدرب الوحيد لميلاد جديد من رحم البرزخ. ولنسمع مرافعته قائلاً: «لا نجرؤ بعد على أن نفكر بطريقة مغايرة. نعيش أسرى هذا الانتماء الأحادي لأرض لم نرها ولا نعرفها ولا نملكها وهذا يعذبنا مرتين: مرة لأن هذا إحساس ثقيل ومؤلم ومرة لأن هذه الرؤية غير واقعية. نحن ننتمي إلى فلسطين ولأشياء كثيرة أخرى وللبلدان التي تشتتنا فيها.» يعود حسام إلى ذاته فينجح نجاحاً كبيراً في كوبنهاغن ويسخّر نجاحاته لمساعدة أبناء الجالية الفلسطينية والعربية في اسكندنافيا. ثم يؤسس موقعاً الكترونياً ضخماً بكل ما يتعلق بفلسطين، يصبح بمثابة حبل سري يربط كل لاجئ بالرحم الأول. وتمضي سامية عيسى في طرح مفهوم جدلي للشتات يصر على عدم التخلي عنه على اعتبار أنه ميزة فهو «جسر عبور قسري إلى الآخر في أي بقعة كان وعلى أي جماعة وقع وها نحن تحولنا إلى جسر». وبهذه الرؤية يتحول الشتات إلى حيز إثراء وغنى في التجربة والتواصل والتعلم لا مكان اغتراب وفقدان للهوية. أما المؤمنون بها أمثال حسام ممن يقررون العودة إلى الذات فإنهم يصبحون «الشتاتيين الجدد». إذ ما يشغل الكاتبة هو عودة اللاجئ الفلسطيني إلى ذاته ونفسه أولاً وقبل أي شيء، وبعدها تصبح الطريق إلى فلسطين أو سواها مفتوحة ويسيرة. فما جدوى الإغراق في الإصرار على مفاهيم لم تعد مجدية في الزمن الحاضر خاصة إذا كان ثمنها خسارة الإنسان الفلسطيني لنفسه. على أي حال، نختم بكلمات لحسام نفياً لما قد يساور البعض من أن ثمة تفريطاً أو تهاوناً بحق العودة نفسها، يقول: «ما أزال أريد العودة لكنها ما عادت العودة إلى الأرض هي ما يشغلني الآن بل العودة إلى الذات قبل أن نضيع تماماً. الآن أفكر بالناس وكيف أساعدهم كي يؤمنوا بأنفسهم حتى يتمكنوا من تصديق أحلامهم. حين نؤمن بمن نكون ونصدق أحلامنا ربما نحقق بعضاً منها ليس بالصورة الساذجة التي سكنت عقول آبائنا وأجدادنا بل بصورة جديدة ترى الواقع بواقعية، ترى الزمن الذي أدركنا».

مشاركة :