«امحها يا علي» جملة قالها سيد الخلق محمد بن عبدالله (عليه الصلاة والسلام) لتلخّص منهج حياة الأمة في قاعدة اجتماعية وسياسية وإدارية وأسرية. ففي صلح الحديبية والذي كان بين كفار قريش وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى يدخل المسلمون البيت الحرام اختار المشركون سفيرًا لهم وهو سهيل بن عمرو لعقد الصلح وبعد الاتفاق على قواعد الصلح قال (صلى الله عليه وسلم): هات أكتب بيننا وبينك كتابًا. فدعا الكاتب وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: اكتب بعد باسمك اللهم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو فاعترض سهيل بن عمرو وقال: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولكن اكتب محمد بن عبدالله فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي: امحها يا علي واكتب محمد بن عبدالله. فقال علي رضي الله عنه: والله لا أمحوها أبدًا يا رسول الله. فقال (صلى الله عليه وسلم): هاتها يا علي فمحاها بيده عليه الصلاة والسلام لأنه يعلم تمامًا أن علي لن يمحو كلمة رسول الله. «امحها يا علي»: هي استراتيجية النبي (صلى الله عليه وسلم) للحفاظ على مؤسسة الإسلام والتي لم يستطع لحظتها كبار الصحابة رضوان الله عليهم استيعابها. فهي تتجاوز عن الصغائر للحفاظ على العظائم التي كانت تنتظر الأمة وتحول بالمسار من الجدل الهادر للأوقات الثمينة إلى الانشغال بما ينبني عليه من الأعمال القويمة فما أحوج أبناء الأمة العربية والإسلامية لترجمتها وما أجملها من استراتيجية نبوية. فهي استراتيجية التغافل وهي الترفع عن الدنايا وسفاسف الأمور وهفواتها التي لا تغير الحقائق ولا تبدد الحقوق ولا تحط من الكرامة ولا تقر مُنكرًا ولا تنكر معروفًا ولا تؤصل لباطل. ولقد استلهم جلالة الملك المفدى من معلمه الأول نبينا صلى الله عليه وسلم منهج «امحها يا علي» ليتجاوز عمن أساء للحفاظ على اللحمة الوطنية متينة وقوية ولتطيب النفوس وتسير قافلة البحرين متقدمة للأمام. «امحها يا علي» جعلها جلالة الملك منهجا لتصفو النفوس، «امحها يا علي» ليست ضعفا بل قوة مع القدرة لكنها استراتيجية حكيمة في وضع الأمور في نصابها في الوقت المناسب. «امحها يا علي» قرار صائب في وقت عصيب ودقيق لم يكن ليستطيع أحد الإقدام عليه بحرفية عالية إلا من نهل من معين الحبيب صلى الله عليه وسلم اتباعًا واقتداء. استراتيجية التغافل لا أعلم لمَ نملأ حياتنا بتتبع أخطاء وزلات الغير بل نصر على أن نناقش تلك الأخطاء ونصرف من أوقاتنا دقائق وساعات وربما أيامًا في النقاش والغضب وعندما نصفح ونسامح تبدأ الذكرى بالتسلل إلى أذهاننا وعقولنا وسرعان ما نتذكر تلك اللحظات المؤلمة. وهذه نتيجة طبيعية لأننا سمحنا لتلك اللحظات المؤلمة وتلك الأخطاء بأن تتبوأ مكانًا لها في ذاكرتنا ومشاعرنا وكلما بحثنا في ثنايا الماضي زادنا ذلك حزنا وغمًا. ويا ليتنا التفتنا إلى ما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة». لقد قال شيخ الإسلام «أولياء الله» فكيف بنا نحن بقية البشر. لقد جعل الآباء من العقاب الخطوة الأولى لتربية أبنائهم ومن ثم يأتي التعليم كخطوة ثانية، فترى الأب يتتبع أخطاء وعثرات ابنه ليثقله بالعقاب وكأن هذا الابن ولد متعلما وواعيا ولديه مثل ما لدى أبيه من خبرة في هذه الحياة فينشأ الطفل نشأة غير سوية يحمل في قلبه جروحا وإهانات ما يخلق فجوة بينه وبين أبيه تنعدم بسببها جميع سبل التواصل فلا يقبل نصح أبيه أبدًا ذلك النصح الممزوج بالاستهزاء والتجريح. فإذا كانت هي تلك الحال بين الأب وابنه أو بين الأم وابنتها فكيف ستكون حال الزوج مع زوجته؟ الزوج يريد زوجته في قمة المثالية خالية من أي عيب أو نقص وأن تفعل له كل ما يريد ويحب من دون حتى أن يقول لها ذلك فتقرأ أفكاره وتعلم ما في نفسه وتسارع لتلبية ذلك من دون أي خطأ وكأنها مخلوق مختلف عنا نحن البشر الذين يخطئون تارة ويصيبون تارة أخرى، وما أن يعاشر الزوج زوجته حتى تبدأ المشاكل فيكثر لها العتاب واللوم على ما لم تفعله أو ما لم تقله فيموت في نفس الزوجة طموحها إلى إرضاء ذلك الزوج صعب الإرضاء وتفقد الأمل في سعيها لإسعاده والسبب قلة التشجيع والنصح وكثرة الانتقاد واللوم والمحاسبة وما ينطبق على الزوج ينطبق على الزوجة كذلك. إن التغافل عن أخطاء الغير لا يعبر عن عدم اهتمامنا بالأخطاء والتأكيد عليها ولا يعبر عن ضعفنا وسذاجتنا بل هي الحكمة بعينها. قال الإمام أحمد: «العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل». وليس الغبي بسيد في قومه، لكن سيد قومه المتغابي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أمور التعايش في مكيال ثلثه الفطنة وثلثاه التغابي. نعم والله إنها العافية بعينها كيف لا وقد جبل بنو البشر على الخطأ ومن سوء الفهم وعدم التقدير أن ننتظر من الناس أن يفعلوا ويقولوا ما نريد بل إن الحكمة أن نتعامل مع الناس بشكل واقعي ومرن آخذين بعين الاعتبار طبيعتهم التي جبلت على الأخطاء. إن الإيمان بقول رسول الله صلى الله علية وسلم «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» يحتّم علينا أن نتغافل عن تلك الأخطاء ما لم تتسبب في مفاسد. ولا ننسى أن مذاهب الناس في الأخطاء مختلفة ولكن مهما كانت اجعل من نفسك أعمى وأصم وتغافل واعف عن الأخطاء ولا تقف عندها وتذكر أن أجر ذلك في الدنيا معافاة من القلق والهم وكثرة التفكير وأجرها في الآخرة مغفرة من الله تعالى، قال عز وجل «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم» وقال صلى الله عليه وسلم : (من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء). وقد قال الإمام ابن القيم: «من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقًا كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله» إن خلق التغافل من أحسن الأخلاق وبهذا الخلق الكريم النبيل تبقى العلاقات وتنمو المحبة وتزدهر، ولأن التغافل هو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرمًا وترفعًا عن سفاسف الأمور، فالمتغافل يعلم عن هذا الخطأ ويستطيع معاقبة المخطئ ولكنه يتغافل عن ذلك ليبقى حبل المودة. { أكاديمي متخصص في العلوم الشرعية وتنمية الموارد البشرية
مشاركة :