ابن الخطيب الوزير والشاعر المؤرخ والأديب، الأندلسي، في كتابه «نفاضة الجراب في علالة الاغتراب»، زار عدد من مدن المغرب وقراه، وهو نقل لنا شيئًا مما شاهده ولقيه، وفي هذا الكتاب استخدم ألفاظًا عسيرة الهضم في بعضها، وقد ذكر في زيارته لعددٍ غير قليل من الأمراء، وشيوخ القبائل، وكبار الوجهاء، والمسؤولين، وقد أطنب في إطراء الكثير منهم، وأجاد في إزالة اللوم عنهم، لاسيما أولئك الذين لاقوه بوجه رحب، وكف رطب. يبدو أن ابن الخطيب يحسن التعامل مع حال المخاطب، فيتعامل معه بما يراه مناسبًا، ولا غرو في ذلك، فهو الوزير الحاذق، ولبلده الأندلس مفارق، رغم أنه شديد الفقد لمن لا يتفق معه، وقد يستخدم من الألفاظ في شعره ونثره، ما يتجاوز الحد، كما فعل في هجاته لتلميذه ابن زمرك، أو النباهي أو ابن كماشة أو غيرهم من معاصريه. وها هو يذكر أحد الشيوخ بخبر، رغم أن الشيخ قد تخلف عن المجالسة والمؤانسة معتذرًا بألم ألمَّ به، وتمثل بقول الشاعر: إذا غدا الطيب يجري في مفارقهم راحوا كأنهم مرضى من الكرم ثم ذكر أنه قد غادر مكان الشيخ من الغد، ويقول إنه شيع حتى بعُد، وتألم للمفارقة وتوجع، كثر الله مثله، وكافأ قوله وفعله، وقال فيه قصيدة طويلة، أوردها المقري في كتابه «نفح الطيب». وقد قابل في رحلته عالمًا من علماء تلك الجهات قال عنه أنه غبيط المجالسة، فضل الفكاهة، يجهر بالتلاوة في سبيل الورد المرتب، ناشئة الليل، ومبادئ الأسحار، وهو القاضي والفقيه محمد بن عبدالله الزقندري، والزقندر يطلق على معدن الفضة في جهات سوس بالمغرب، ولهذا فقد داعبه ببيتين من الشعر: سألتُك عبدالله إيضاحَ مشكل وأنت لكشف المعضلات بمرصَد زقَنْدَرُ قالوا عنه معدن فضة فما بالُه أبداك نُدرةَ عَسْجَدِ وهكذا فقد مدحه، حيث يقول إن اسمك فضة لكن ذلك الزقندر أي الفضة قد أبداك قطعة ذهب نادر. وفي رحلته تلك نزل على رجل اسمه يعقوب من بني حدو وبني حدو أسرة مشهورة، لها تاريخ مجيد، وقد قام بواجب الضيف، لكن فيما يبدو أن ابن الخطيب لم ير فيه معرفة بالأدب الذي ينشده، وقد طلب منه يعقوب بن حدو شعرًا يذكره به، فقال ابن الخطيب شعرًا بسيطًا، لا يتناسب مع مكانة ابن الخطيب، لكن ابن الخطيب يرى أن ذلك يناسب حال المخاطب، ومقدار معرفته، فقال: نزلنا على يعقوب نجل أبي حدو فعرفَّنا الفضل الذي ماله حد وقابلنا بالبشر، واحتفل القرى فلم يبق لحم لم نذقه ولا زبد يحق علينا أن نقوم بحقه ويلقاه منا البر والشكر والحمد ويبرر ابن الخطيب قوله مثل هذا الشعر البسيط، استشهادًا ببشار بن برد الشاعر المشهور الذي يقول: إذا ما غضبنا غضبة مضرية هَتَكْنَا حِجَابَ الشّمْسِ أو أمطرت دما وفي نفس الوقت فإن بشار بن برد، يقول: ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت لها سبع دجاجاتٍ وديك حسن الصوت وقد برر بشار قوله، مثل هذا الشعر الضعيف بأنه قاله مخاطبًا امرأة من البادية في خيمة، وقد ذبحت له دجاجة، فقدمتها له مع بعض البيض، وهذا هو ما في استطاعتها، كما هي عادة العرب في إكرام الضيف، ثم قال: إن قولي هذا لها أفضل من أن أقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل..... وقد مر في رحلته تلك بعدد من قبور المشهورين لعدد من السلاطين والعلماء، فكان يترحم عليهم ويدعو لهم، لكنه مر في أغمات بقبر حاكم أشبيليه في فترة حكم الطوائف، وأشهر حكام تلك الفترة المعتمد بن عباد بالأندلس الحاكم والشاعر، الذي جمع في قصره ثمانمائة جارية، وكان ديوانه مجمع لأشهر الشعراء، ويكفي أن نذكر ابن زيدون، وابن عباد، وبعد أن رأى قبر المعتمد، وزوجته بجانبه بكى بكاءً شديدًا، وتذكر ذلك المقام الأدبي الرفيع لأولئك الرجال، وإن كانوا قد فرطوا في الأندلس بلهوهم وصراعهم فيها بينهم، وقال شعرًا رائعًا عند القبر، منه: قد زُرْتُ قبْركَ عن طَوْع بأغْماتِ رأيتُ ذلك من أوْلى المُهمَّاتِ لِمَ لا أزورُكَ يا أنْدى الملوكِ يدًا ويا سِراجَ اللّيالي المُدْلِهمَّات إلى آخر هذه القصيدة الرائعة، كما هي حال قائلها ومن قيلت فيه.
مشاركة :