جدد الحديث عن “المنطقة الآمنة” التي عرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنشاءها في مناطق شرق الفرات ذكريات يحملها القوميون الأكراد تتعلق بمشروع “الحزام الأخضر” الذي طبقه البعثيون في هذه المنطقة قبل نصف قرن تقريبا. ذلك المشروع الذي طرحه بعد نجاح انقلاب البعث في سوريا عام 1963 الضابط محمد طلب هلال وعرضه على المؤتمر القطري للحزب الذي عقد آنذاك، وظل قيد المناقشة حتى جعله حافظ الأسد واقعا في الأجزاء الشمالية من محافظة الحسكة عام 1974. تناول هلال في دراسته الأمنية أوضاع محافظة الحسكة من النواحي القومية والاجتماعية والسياسية، خاصة واقع الأكراد في المحافظة الذين أقلقه توزعهم الجغرافي من ناحية تركزهم في منطقة واحدة بشكل يعزلهم في منطقة تكاد تكون مغلقة متصلة بمناطق توزع الأكراد في الدول المجاورة، ما يقوي النزعة القومية ويهدد بانتقال عدوى المطالبة بالاستقلال إليهم خاصة من جهة التأثر بحركة مصطفى البارزاني. وفي نهاية الفصل الثاني من دراسته والخاص ببحث “المشكلة الكردية في محافظة الجزيرة” قدم رئيس شعبة الأمن السياسي آنذاك اقتراحات لقياداته البعثية تتضمن عدة إجراءات لحل هذه “المشكلة”، أهمها تهجير الأكراد من منطقة الشريط الحدودي إلى الداخل وخاصة العناصر “الخطرة” منهم، وإسكان عناصر قومية عربية على الشريط الحدودي مكانهم، وجعل هذه المنطقة عسكرية لضمان تحقيق مخطط الإبدال بأمان، وإنشاء مزارع جماعية في هذه المنطقة لإسكان العرب على أن تكون هذه المزارع “كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماما” على حد وصفه. تأخر تنفيذ هذه المقترحات أكثر من عشر سنين حتى وجد فيها حافظ الأسد بعد نجاح انقلابه على رفاقه في القيادة القومية حلولا لمشكلات عديدة، منها “المشكلة الكردية” كما تسمى في أدبيات الحزب، ومنها مشكلة التعويضات المستحقة لأبناء القبائل العربية في حوض الفرات والذين غمرت أراضيهم بحيرة سد الطبقة. فأصدر باسم القيادة القطرية لحزب البعث أمرا في 24 يونيو 1974 يقضي بتطبيق مشروع الحزام العربي على امتداد الشريط الحدودي بين عين ديوار شرقا ورأس العين غربا، واستملاك الأراضي الداخلة في المشروع، وبناء المزارع الجماعية لإيواء أبناء القبائل العربية الذين نُزعت منهم أرضهم وأجلوا من قراهم لوقوعها ضمن مخطط الغمر بمياه البحيرة وخُيّروا بين القبول بالانتفاع (لا استملاكا) بالأراضي المنتزعة من أصحابها شمال محافظة الحسكة، أو خسارة أراضيهم دون تعويض. ساعد حافظ الأسد في تنفيذ قراره الكثير من الإجراءات السابقة التي استند إليها، أهمها قانون الإصلاح الزراعي الناصري الذي أقره مجلس الشعب بعد الوحدة مع مصر وحمل اسم القانون 161 لعام 1958، الذي قررت المادة 5 منه استيلاء الدولة على المساحات الزائدة عن الحد المقرر في القانون للحيازات الزراعية، في حين قررت المادة 13 الأفضلية في توزيع الأراضي المستولى عليها في كل قرية للفلاحين من أهالي القرية على غيرهم بشروط لا تنطبق على أكثر الفلاحين الأكراد من الذين جرى تجريدهم من الجنسية بموجب القوانين الصادرة بعد إحصاء 1962 والتي حرمت من الجنسية كل الأكراد غير المسجلين في القيود المدنية قبل 1945 وأعطتهم صفة “الأجانب” لإثبات أصولهم التركية، وآخرين تأخروا في استخراج الوثائق المطلوبة، وكذلك توصيات المؤتمر الثالث لحزب البعث عام 1966 المتضمنة “إعادة النظر في ملكية الأراضي الواقعة على الحدود السورية التركية على امتداد 350 كم وبعمق 10 - 15 كم، واعتبارها ملكا للدولة تطبق فيها الاستثمارات الملائمة بما يحقق أمن الدولة”. وجرى تنفيذ “الحزام الأخضر” على الأرض، وأنشأت الدولة 40 مزرعة جماعية لإسكان 40 ألفا من مهجري الرقة فيها، على أراض في المالكية والقامشلي ورأس العين يعود أغلبها لملاكين أكراد انتزعت منهم دون تعويض، بامتداد يقارب 200 كم وبعمق 10 كم ليغطي هذا الحزام قرابة 2000 كم مربع ويكون عازلا بين الأكراد في سوريا وأكراد العراق وتركيا، بدليل عدم تنفيذ مشروع مشابه له في عفرين حيث لا يقابل الأكراد فيها وجود كبير للأكراد في الجوار التركي. وقد أثار الانتباه نشر بعض وسائل الإعلام التركية للخارطة التي تمثل التصور التركي بخصوص “المنطقة الآمنة” أنها قريبة الشكل من خارطة “الحزام الأخضر” المطبقة سابقا، مع مضاعفة الامتداد لتشمل كامل الشريط الحدودي بين نهري دجلة والفرات. هذا الأمر أثار مخاوف القوميين الأكراد من أن تكون “المنطقة الآمنة” التي تريدها تركيا فكرة مطوّرة عن “الحزام الأخضر” البعثي، خاصة مع التجارب السابقة لهم في عفرين حيث نتج عن دخول الجيش التركي إلى المنطقة لإخراج مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية نزوح عشرات الألوف من سكانها الأكراد باتجاه مناطق أخرى، خوفا من تعديات فصائل الجيش الحر، في ظل إشراك القوات للقسم الأكبر من الأكراد في أنشطتها إن كان باسم التجنيد الإجباري أو التوظيف، ما يجعل كل متهم بالعلاقة معها معرضا للملاحقة، وفي الوقت نفسه استقبلت تركيا الألوف من النازحين العرب الذين هجرهم النظام من ريف دمشق ومناطق أخرى، وأسكنتهم في مخيمات في عفرين كما استقر كثير منهم في المدن والبلدات الكردية، ليحصل بذلك ما أطلق عليه “التغيير الديموغرافي”. فالحكومة التركية تصرح بأنها تريد جعل “المنطقة الآمنة” حسب تصورها مأوى للاجئين السوريين المقيمين في أرضها، والبالغ عددهم 3.5 مليون لاجئ، وإسكان قسم كبير منهم في مدن وبلدات الشريط الحدودي التي تشمل المالكية والجوادية والقحطانية والقامشلي وعامودا والدرباسية ورأس العين وسلوك وتل أبيض وعين العرب والشيوخ، ما سيضاعف من نسبة السكان العرب فيها، في الوقت الذي قد يزاح عنها كثير من الأكراد باتجاه المناطق الداخلية في الحسكة والرقة وبقية المناطق السورية، ما يعني إضعاف الآمال في مشروع الإقليم الكردي الذي يطمح القوميون الأكراد لتأسيسه في المنطقة التي استولت عليها قوات سوريا الديمقراطية بمعونة من الولايات المتحدة والتحالف الدولي، خاصة إذا علمنا أن أكثر من نصف أكراد سوريا يتواجدون في الحزام الذي يُراد جعله “منطقة آمنة” تحت الرعاية التركية. مشروع “المنطقة الآمنة” من هذا المنظور، وإن كان يلقى في العلن رفضا من النظام السوري، إلا أنه يتوافق مع تصوراته بالنسبة للمنطقة الواقعة شرق الفرات ومخططاته القديمة بخصوصها وعلى رأسها مخطط “الحزام الأخضر”، فحسم قضية “الإقليم الفيدرالي” الذي تطالب به قيادة قوات سوريا الديمقراطية ويرفض النظام مجرد مناقشتها مطلب مهم للنظام على المدى القريب، وتكثيف الوجود العربي على الشريط الحدودي وبعثرة الوجود الكردي في المناطق الداخلية مطلب مهم على المدى الطويل، خاصة مع آماله باستعادة المنطقة في فترة زمنية ليست طويلة كجزء من اتفاقات الحل النهائي التي يجري ترتيبها حاليا بين روسيا وتركيا وإيران. في ظل ضبابية الموقف الأميركي من موضوع “المنطقة الآمنة”، ورفض النظام تلبية أدنى مطالبهم، لعجزه عن تقديم وعود قد تخالف وعود روسيا لأردوغان، أبدى قادة قوات سوريا الديمقراطية رغبتهم في التفاوض مع الحكومة التركية بخصوص “المنطقة الآمنة” لكسب الوقت وأملا بالخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر، خاصة مع وجود آمال بأن يكون قصد الأميركيين من طرح هذا المشروع يصب في مصلحتهم، لا في مصلحة الأتراك، وذلك بأن تكون هذه المنطقة وسيلة لمنع أي تهديد تركي باجتياح منطقة شرق الفرات في حال تنفيذ الانسحاب الأميركي من المنطقة خلال الأشهر القادمة.
مشاركة :