فيديو انتشر على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" يظهر فيه طفل مُعلق بين بلكونة وشباك خارج عقار سكني، تمسكه امرأة، يبدو أنها أمه، وتقوم بدفعه في اتجاه البلكونة. يقول أحدهم أن السبب هو أن الطفل قد نسيّ مفتاح الشقة بالداخل، وعلق هو وأمه خارجها. ثم يتفتق ذهنها بفكرة أن يتسلق الطفل البلكونة، عن طريق شباك على سُلم العقار الداخلية، كعقاب على ما فعله. يصرخ الطفل: "هموت". ولا تتهاون الأم معه، ولا تستمع لصرخاته. وكلما صرخ، دفعته للخارج أكثر، مرة من ملابسه، ومرة من قدمه، وتضربه أثناء الدفع بقبضة يدها، بينما يداه معلقتان على حديد البلكونة، وجسمه خارج العقار. وسط استغاثة الطفل، وصراخ الجيران في المرأة، التقط أحدهم هذا المقطع من عقار مقابل، ونشره على الإنترنت. غضب عارم في تعليقات المستخدمين، واتصال عاجل بخط نجدة الطفل. لتعلن جريدة "الوطن" القبض على المرأة، بعد ساعات قليلة. الأمومة: مهمة بيولوجية أم دور اجتماعي؟ تستنكر التعليقات أمومة المرأة، ويصفها كاتبوها بالاضطراب النفسي، ويطالبون بالقبض عليها. لا شك أن ما ارتكبته هذه المرأة جريمة، لأنها عرّضت حياة الطفل للخطر، وتكاد تتحول إلى جريمة قتل عمد، إن سقط الطفل ولقي مصرعه. لكنني أغوص في هذا النص حول نمطية دور الأم، وما هو متوقع من النساء بعد الإنجاب. يُعد الإنجاب مهمة بيولوجية تقوم بها الإناث، نظرًا لامتلاكهن الرحم. لكنْ لهذه المهمة البيولوجية بُعد اجتماعي، إذ يرتبط دور المرأة المُنجبة بالفعل الرعائي لما بعد الإنجاب، أي الاعتناء بالأطفال منذ الولادة. وتُسمى هذه الأفعال الرعائية أمومة، رغم أنها أفعال يُمكن أن يقوم بها أي فرد تجاه أي فرد آخر، بما في ذلك الاعتناء بالحيوانات الأليفة. وتتحول الأمومة شيئًا فشيئًا إلى سلوكيات نمطية يتوقع من النساء الالتزام بها، منها الاعتناء غير المشروط بالأطفال، ومسئولية التربية، والتقويم السلوكي. وتنطوي كذلك على بُعد عاطفي، إذ تأخذ تلك الأفعال الرعائية طابعًا "أموميًا"، فترتبط بالحنان، والحب غير المشروط، والتفاني من أجل الأطفال، والحساسية العاطفية تجاههم. تلك الصورة النمطية للأم خلقت سلوكيات بعينها تلتزمها النساء، كمعيار من معايير تقييم أمومتهن اجتماعيًا. فإن لم تتصرف الأم بشكل ما، تسقط عنها صفة الأمومة. مثال: إن لم تهتم الأم بالأطفال بشكل كافٍ، اتُهمت بالإهمال. وإن لم تتصرف بعاطفة، اتُهمت بالجمود العاطفي. وإن تصرفت بعنف، كما في حالة الفيديو محل النقاش، اُسقطت عنها الأمومة بضغطة زر على الكيبورد. هذه السلوكيات التي يتم تصويرها اجتماعيًا على أنها الشكل الوحيد للأمومة، ساهمت في ترسيخ دور اجتماعي للأمهات، تتبعه أغلبهن لأنه السائد والمُتعارف عليه لكيف تصبح المرأة "أمًا". ينتقل بذلك الدور الإنجابي، من كونه مهمة بيولوجية إلى كونه دورًا اجتماعيًا، تمارسه النساء بشكل عفوي، وأحيانًا يتعمدن اظهاره، ليساعدهن ذلك على التحقق الذاتي والمجتمعي كنساء أمهات. أقوال جاهزة شاركغردتستنكر التعليقات أمومة المرأة، ويصفها كاتبوها بالاضطراب النفسي، ويطالبون بالقبض عليها. لا شك أن ما ارتكبته هذه المرأة جريمة، لأنها عرّضت حياة الطفل للخطر، وتكاد تتحول إلى جريمة قتل عمد، إن سقط الطفل ولقي مصرعه. شاركغردلك الصورة النمطية للأم خلقت سلوكيات بعينها تلتزمها النساء، كمعيار من معايير تقييم أمومتهن اجتماعيًا. فإن لم تتصرف الأم بشكل ما، تسقط عنها صفة الأمومة. وإن تصرفت بعنف، كما في حالة الفيديو محل النقاش، اُسقطت عنها الأمومة بضغطة زر على الكيبورد. شاركغردلكننا إن نظرنا إلى الأمومة باعتبارها عنصرًا "رومانسيًا"، فإننا بذلك نُجرّد الأمهات من أحقيتهن في التعبير عن الغضب، وفي التعبير عن أن الأمومة دور اجتماعي صعب، تمارسه أغلب النساء وهنّ متخوفات من الظهور عليهن علامات الاستياء، ومن أن يُسحب منهن صك الأمومة. لماذا لا نتوقع العنف من الأمهات؟ في هذه الحال، تكون الأمومة دورًا اجتماعيًا مرتبطًا بالدور الإنجابي، وممتدًا إلى السلوكيات الاجتماعية. فكما ذكرت فإن هذه السلوكيات لا تشمل العنف، وفي هذا بُعد آخر له علاقة بالهوية الاجتماعية للنساء. هذه الهوية، أي التعريف بوصف "امرأة" بوجه عام، يحتوي في داخله على تعريف ضمني سلبي للعنف، ليكون العنف صفة مرتبطة اجتماعيًا بالرجولية، أي الهوية الاجتماعية "رجل". وفيما يُصبح العنف حكرًا على الرجال، ومرتبطًا بسلوكياتهم وهوياتهم الاجتماعية، يكون مُنكرًا على النساء. ليس فقط بوصف أن الرجال ينشأوا اجتماعيًا ليُصبحوا أكثر عنفًا من النساء، بل لأن النساء أنفسهن يتم تصويرهن كمستقبلات للعنف، وغير مُمارِسات له. فالرجال يُمارسون العنف، والنساء يُمارس ضدهن هذا العنف. فعندما تُمارس امرأة العنف، لا تُنفى عنها أمومتها فحسب، ولا يُنكر عليها دورها الإنجابي فقط، بل تُنفى عنها هويتها كامرأة في المقام الأول. في تعليقات المستخدمين على فيديو الطفل، نجد تعليقات مثل: "مستحيل تكون أمه/ انتي مش ست حرام عليكي/ دي مش أم سابت إيه للأبهات،" وغيرها من التعليقات التي تستنكر أن تقوم امرأة بأفعال عنيفة، لمجرد كونها امرأة. الأزمة في مثل هذه التعليقات هو ترسيخ مفهوم الأمومة باعتباره شكلًا غير محدود من الأفعال العاطفية غير المُقيدة بأي شيء. في حين أن الأمومة، كفعل رعائي، مهمة اجتماعية مُعقدة، تستدعي معها جميع المشاعر المُصنفة بين سلبية وايجابية، بما في ذلك الصراخ، والغضب، والحزن، والاكتئاب، والعنف. لكننا إن نظرنا إلى الأمومة باعتبارها عنصرًا "رومانسيًا"، فإننا بذلك نُجرّد الأمهات من أحقيتهن في التعبير عن الغضب، وفي التعبير عن أن الأمومة دور اجتماعي صعب، تمارسه أغلب النساء وهنّ متخوفات من الظهور عليهن علامات الاستياء، ومن أن يُسحب منهن صك الأمومة. فالأمومة نفسها مُصاغة كامتياز مجتمعي، ليكون مسموحًا للنساء المُمارسات لهذا الدور فقط بإظهار المشاعر الإيجابية علنًا، ويحتفظن بالسلبية لأنفسهن. تأكلهن المشاعر ليلًا ونهارًا، ولا يكون جزاء التفاني في الأمومة، مُجزيًا بالشكل الكافي. فهذا التقديس كالعملة المعدنية، ذو وجهين. الأول هو الاستحسان والقبول والثناء، والمدح. والثاني هو استنكار حق النساء في الشكوى من ثقل هذه الوظيفة الاجتماعية التي توظف أجسامهن ومشاعرهن وذواتهن. هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. غدير أحمد - ناشطة نسوية مصرية، وباحثة متخصصة في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي. كلمات مفتاحية الأطفال الأمومة العنف العنف الأسري النساء التعليقات
مشاركة :