دائماً ما نشجع مَن يتعرضون لمشكلات في مجال العمل على التحلي بالمرونة والصلابة، ولكن هذه النصيحة ربما لا تمثل سوى مصدر آخر للضغوط والتوتر. بي بي سي تناولت وعبر الكاتبة والصحفية آن هيلين بيتيرسن، في مقال حظي بشعبية كبيرة نشره موقع "بزفيد" الإلكتروني الأمريكي، الكيفية التي أصبح بها مَن يعرفون بـ"جيل الألفية" ينتمون إلى "الجيل الذي يعاني من الإنهاك والإرهاق على المستويين الذهني والبدني". وتحدثت بيتيرسن عن العواقب الوخيمة المترتبة على الإصابة بذلك، وتناولت بالتعريف حالة باسم "العجز عن أداء المهام" يصاب بها المرء، وهي حالة تدفع الإنسان إلى بذل جهد كبير لأداء مهامه وواجباته حتى وإن كانت معتادة وبسيطة. وتترسخ كثير من العوامل التي تسهم في وصول المرء إلى هذه المرحلة في وظائف تتسم بالتحديات، فضلا عن الظروف الاقتصادية التي تواجه أبناء جيل الألفية، بحسب بيتيرسن. كما تحدثت الكاتبة عما وصفته بـ"تدخل الآباء والأمهات بشكل مكثف"، كعامل يسهم في حدوث المشكلة، نظراً لأن من ينتمون لجيل الألفية يخضعون لعمليات تدريب قاسية وإعداد لاقتحام سوق العمل. لذا ترسخت في أذهان أبناء هذا الجيل فكرة الحاجة المستمرة للعمل أو الانهماك في أنشطة بغية الارتقاء بمهاراتهم الشخصية. التشابه مع مشكلة "الإنهاك في العمل" وتوجد أوجه شبه كثيرة بين الإنهاك الذي يعاني منه "جيل الألفية"، والنمط التقليدي للحالة التي تعرف بـ"الإنهاك والإرهاق جراء العمل". ويحدث هذا الشعور نتيجة الإجهاد والتوتر اللذان يستمران لمدة طويلة، وهو شعور يبرز من خلاله حالة انفصال عن الواقع المحيط، وإنهاك عاطفي، فضلا عن إبداء السخرية اللاذعة وتبني نظرة متشائمة، والإحساس بعدم الفعالية والعجز عن الفعل الإيجابي. وتتمثل العوامل الستة الرئيسية المؤدية للشعور بالإنهاك والإرهاق جراء العمل، في تحمل عبء هائل من المهام، مع عدم التمتع بقدرة كبيرة على التحكم في الأمور المرتبطة بهذه العوامل، والانخراط في عمل غير مرض نفسيا أو محفز ماديا، أو العمل في وظيفة لا يحصل فيها الشخص على حقوقه، والاضطلاع بأعمال تتعارض مع قيمه ومبادئه، فضلا عن الافتقار إلى التواصل الاجتماعي في مكان العمل. ومن بين أكثر الأشخاص عرضة للإحساس بهذا الشعور أولئك الذين يضطرون إلى التنقل بين بيئات معقدة ومتفاوتة، وأحيانا معادية. وإن كان أبناء "جيل الألفية" يعانون من تلك الحالة بمستويات مرتفعة، فيما يبدو، فربما يشير ذلك إلى أنهم يواجهون بيئات أكثر تعقيدا مليئة بمشكلات مقارنة ببيئات أخرى. وعلى الرغم من أن العوامل السابقة هي نفسها التي تصيب الجميع على الأرجح، سواء من "جيل الألفية" أو غيرهم، وهي الإجهاد والإنهاك، فإن الفارق يتمثل في أنها تحدث لأبناء هذا الجيل بطرق جديدة وغير متوقعة وبمقدارٍ أكبر بكثير، ولم نكن نهتم بها. فكلنا يعلم، على سبيل المثال، أن ممارسة النمط التقليدي الذي يُعرف بـ"المقارنة الاجتماعية" - أي تقييم المرء لذاته وقدراته عبر مقارنة نفسه بآخرين - تلعب دوراً في الشعور بالإنهاك في مجال العمل. وتتزايد حدة التنافس الاجتماعي والمقارنة بالآخرين باستمرار بين أبناء "جيل الألفية"، بسبب شبكة الإنترنت، كما تبين بالفعل أن الانخراط في هذا الأمر، يرتبط بظهور أعراض الاكتئاب لدى الشباب. كما أن تجنب استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لا يحميك من هذه المشكلة، إذ قد يؤدي استخدام التكنولوجيا والاتصال بشبكة الإنترنت إلى حدوث إنهاك بدني وذهني، فيما تربط الدراسة بين الاستخدام المفرط للإنترنت والشعور بالإنهاك. ولا يعدو ما سبق سوى بعض الجوانب التي يتعرض من خلالها "جيل الألفية" - على نحوٍ متزايد - للضغوطات نفسها التي نعلم أنها تؤثر سلبياً على الأشخاص في بيئة العمل. بيد أننا لا نعلم سوى القليل للغاية عن الكيفية التي يعاني بها أبناء هذا الجيل من الإرهاق والإنهاك. إذ أن الدراسات المبكرة التي أُجريت في هذا المجال، أشارت إلى وجود تفاوت بين الأجيال في هذا الصدد. فعلى وجه التحديد، يتعامل "جيل الألفية" مع الإنهاك العاطفي - وهو في الغالب المرحلة الأولى من "الإنهاك والإرهاق البدني والذهني" - بطريقة تختلف عن طريقة أبناء جيل "الطفرة الإنجابية"، وهم مواليد الفترة بين عامي 1946 و1964. فحينما يشعر أبناء "جيل الألفية" بالإنهاك العاطفي، يكونون أكثر ميلاً للإحساس بالاستياء وعدم الرضا والرغبة في ترك وظائفهم، بشكل أكبر من المنتمين لجيل "الطفرة الإنجابية". وأظهرت الدراسات التي أُجريت بشأن ذلك أن الضغوطات والبيئات التي تتسم بالتعقيد مُتضافرة مع رفع سقف التوقعات والطموحات، وتفضي جميعها إلى تهيئة الظروف التي تؤدي إلى الإحساس بالإجهاد الشديد. من هذا المنطلق، يزداد خطر معاناة من يحرصون على أداء المهام بإتقان وكمال، لاسيما من ينتقدون أنفسهم دائما بشأن أدائهم، بهذا النوع من الإنهاك. فهؤلاء تحديداً - وبطبيعة الحال - يعملون بجِد لتجنب الفشل، وهو ما يجعلهم عرضة بشكل أكبر لهذه الحالة. التحلي بالمرونة ومن بين الأساليب المتبعة مؤخراً لمواجهة مشكلة المعاناة من هذا الشعور في بيئة العمل، تدريب العاملين على التحلي بمزيد من المرونة والقدرة على مواجهة الضغوط. ويرتكز هذا التوجه على افتراض يقول إنه بمقدور الأشخاص ذوي الكفاءة العالية تحسين ممارساتهم في مكان العمل لتجنب السقوط ضحيةً للشعور بالإنهاك البدني والذهني. وعلى الرغم من ذلك، كما ذُكر مؤخراً في افتتاحية نُشِرَت في دورية "المجلة الطبية البريطانية"، المعروفة اختصاراً باسم "بي إم جيه"، فإن مخاطر الإصابة بتلك الحالة، تزيد على الأرجح لدى من يتميزون بكفاءة عالية، ويتمتعون بالصحة النفسية، ويبدو أنهم يتسمون بالمرونة والقدرة على مواجهة الضغوط. ورغم أن هذا الأمر يبدو بديهياً، أظهرت واحدةً من أولى الدراسات التي أُجريت بشأن مواجهة تلك الحالة من الإجهاد الذهني والبدني في أماكن العمل، أن مخاطر مواجهة هذه المشكلة كانت أكبر بين العاملين الأقل قلقاً والأكثر سعادة وقدرة على امتصاص الضغوط التي يتعرضون لها، مُقارنةً بمن كانوا ضمن مجموعة أخرى لا يتحلى أفرادها بهذه السمات. وشملت هذه الدراسة - التي لا يتذكرها كثيرون - عينةً مؤلفةً من أكثر من 400 من مراقبي الحركة الجوية في الولايات المتحدة خلال سبعينيات القرن الماضي، وتابعت حالاتهم لمدة ثلاث سنوات. وخدم غالبية أفراد العينة - بالأحرى 99 في المئة منهم - في الجيش الأمريكي، مما يجعلنا نتوقع أنهم مروا من قبل بمواقف شهدت توترات وإجهادا شديديْن، ما أكسبهم على الأرجح قدرةً على الصمود في وجه مثل هذه المواقف. وتظهر نتائج هذه الدراسة بعض الظروف والحالات، التي أدت إلى أن يصيب الإنهاك الذهني والبدني هذه المجموعة، التي يبدو أفرادها قادرين على أداء وظائفهم ومواجهة المصاعب والأنواء. وأدت استعانتهم بتقنيات جديدة على تعقيد عملهم، دون منحهم التدريب الضروري لتمكينهم من الانتفاع بهذه التقنيات. كما كانت نوبات عملهم طويلة ولا توجد فيها فترات للراحة، فضلا عن تردي أوضاع بيئات العمل. كما كانت مواعيد هذه النوبات والجداول الخاصة بتحديد كيفية توزيعها مفعمة بالمشكلات والتحديات، بل ويمكن أن تكون غير متوقعة في الوقت نفسه. وتبدو هذه السمات والخصائص والعوامل مألوفة بقدرٍ كبيرٍ على الأرجح بالنسبة لأبناء "جيل الألفية"، وكل من يعملون تحت مظلة نظامٍ اقتصاديٍ يتصف بأن عقود العمل فيه مؤقتة أو قصيرة الأجل. إن التركيز في الآونة الأخيرة على تدريب العاملين على تجنب الإصابة بهذه الحالة من الإجهاد من خلال تشجيعهم على التحلي بقدرٍ أكبر من المرونة والقابلية للصمود، سيتحول على الأرجح إلى مصدرٍ آخر للإجهاد والتوتر والضغط، أو إلى هدف مثالي ربما سيتعذر على البعض تحقيقه. وثمة توقعات بأن ذلك سيؤدي إلى تفاقم خطر وقوع المرء فريسةً للإنهاك والإرهاق وليس العكس، خاصةً بالنسبة للأشخاص الذين ينشدون الكمال ويوجهون انتقادات لاذعة لأنفسهم لكي يتسنى لهم دائما البقاء على المسار الصحيح. من جهة أخرى، فإن أهمية المُثل التي نؤمن بها ورؤيتنا لما نحن عليه الآن وما ينبغي أن نكون عليه في المستقبل، قد تكشف لنا السبب في ما يحدث من أضرارٍ ناجمة عن قولنا إن أبناء "جيل الألفية" يعانون من شعور متضخم بالتفرد والتميز، وإحساس غير مبرر بالجدارة والاستحقاق، وأنهم غير قادرين على التعامل مع الرؤى المعارضة لآرائهم، ويحسون بالإهانة لأدنى سبب. وعلى نحوٍ مشابه، ربما يؤدي أي تدخلٍ مكثفٍ من جانب الأب أو الأم من أجل محاولة جعل طفلهما قادراً على الصمود في مواجهة المشكلات والتعامل معها بمرونة، إلى نتائج عكسية. وقد يكون السبب في ذلك أن الرسائل الأساسية التي ينطوي عليها هذا التدخل، تتعلق في واقع الأمر بفرض السيطرة الاجتماعية، وجعل الطفل يتصرف وفقاً للعادات والأعراف السائدة، وهو ما سيؤدي غالباً إلى التأثير على تشكيل مُثله الداخلية والخارجية في المستقبل أو المساعدة على تشكيلها. ويمكن القول إن ما يمكننا تعلمه من السمات الخاصة بحالة الإنهاك البدني والذهني وأنماطها والتوجهات السائدة بشأنها، يتمثل في أن العمل الآن أصبح أكثر صعوبةً وتعقيداً بشكل هائل وعلى نحوٍ متسارع. ويؤدي ذلك إلى ارتفاع مستويات المعاناة من هذه الحالة في الكثير من المجالات المهنية، وكذلك بين من يعملون في ما يُعرف بـ"الاقتصاد غير الرسمي" مثل مقدمي خدمات الرعاية الصحية. ومن المرجح أن تحدث هذه المستويات المرتفعة كذلك في أوساط "جيل الألفية". ويتمثل السبيل الأمثل لمواجهة هذه المشكلة في إضفاء طابعٍ أكثر بساطة ويسراً على البيئات المعقدة والمتناقضة والعدائية التي نعيش ونعمل فيها، بدلاً من أن نُلقي على عاتقنا عبء مهمة جديدة، تتمثل في أن نُدرب أنفسنا على أن نصبح أكثر قدرة على التكيف مع هذه البيئات، وصموداً في وجه ما تحفل به من مشكلات.
مشاركة :