قبل أيام، أصدر الجيش الأمريكي دراسة موسوعية كبرى تحت عنوان «الجيش الأمريكي في حرب العراق». الدراسة نشرت في مجلدين كبيرين يبلغ عدد صفحاتهما اكثر من 1400 صفحة. المجلد الأول يغطي الفترة منذ غزو العراق حتى عام 2006، والثاني يغطي الفترة من 2007 حتى 2011. هذه الدراسة لها قصة تستحق أن تروى. في عام 2013، كلف الجنرال ريموند توماس اوديرنو رئيس اركان الجيش الأمريكي في ذلك الوقت فريقا من الضباط بإعداد هذه الدراسة. وانتهى الفريق من إعدادها بالفعل في عام 2016، لكن لم تنشر في ذلك الوقت لأن البعض تخوف من ان تثير ردود فعل سلبية بالنسبة للجيش لأنها توجه انتقادات صريحة لأداء الجيش عموما. لكن أعضاء في الكونجرس طلبوا نشرها، وهو ما حدث قبل أيام. الهدف من التوجيه بإعداد الدراسة كان بالطبع القيام بتحليل موسع ودقيق وشامل وصريح لتجربة الجيش الأمريكي في العراق منذ الغزو حتى الانسحاب. كان مطلوبا مناقشة قضايا مثل، تقييم أداء الجيش على كل المستويات في كل تطور في العراق عبر هذه الفترة.. ما هي الأخطاء التي تم ارتكابها ولماذا؟.. ما هي الدروس التي يجب تعلمها من كل هذا؟ وكما ذكرت كان التوجيه هو ان يكون التقييم والتحليل صريحا ومن دون أي مجاملات. واعتمد فريق البحث الذي اعد الدراسة على عدد هائل من المقابلات، وأرفق بالدراسة اكثر من ألف وثيقة سرية تم الاستعانة بها. سأعود لاحقا للتوقف عند أهم ما تطرحه هذه الدراسة، فالقضايا التي تثيرها وتناقشها شديدة الأهمية بالنسبة إلينا في الدول العربية. لكن أود ان أتوقف عند جانب محدد مهم. الجيش الأمريكي الذي يعتبر اقوى جيش في العالم مهتم اشد الاهتمام بأن يقيم أداءه ويعرف أخطاءه وسلبياته سواء على مستوى القرارات الاستراتيجية أو على مستوى الأداء العملي بشكل موضوعي ومدروس. لماذا يحرصون على هذا؟ بالطبع ليس من اجل العراق أو لخاطر العراقيين والعرب. ليس هذا امر يهمهم كثيرا. الذي يعنيهم من وراء مثل هذه الدراسة وهذه المراجعة الصريحة هو ان يتعلموا من اخطائهم على كل المستويات، ويستخلصوا الدروس التي من شأنها تطوير الأداء وتجنب الأخطاء السابقة في أي حروب أو صراعات قادمة. الأمر لا يتعلق فقط بالطبع بالجيش وقادته، وإنما يتعلق أيضا بالقادة السياسيين وقراراتهم الاستراتيجية، والرغبة في تصحيح اخطائهم. بالطبع، القادة العسكريون والسياسيون حريصون على هذا سعيا إلى تحقيق المصلحة الأمريكية أولا وأخيرا. قارن هذا بالوضع بالنسبة إلينا في الدول العربية. هل سمعنا عن أي جهد عربي مثل هذا لدراسة أي أحداث جسيمة أو تحولات أو أزمات كبرى واجهناها بشكل موضوعي وصريح ومحاولة استخلاص الدروس للمستقبل؟ طبعا، لا. والأمثلة هنا اكثر من ان تحصى. مثلا، كارثة غزو العراق هذه نفسها التي لم تدمر العراق فقط، وانما فتحت أبواب جهنم على كل الوطن العربي.. هل سمعنا عن أي جهة رسمية أو غير رسمية عربية اهتمت بدراسة ما جرى بشكل موضوعي صريح، وتحديد الأخطاء التي ارتكبها النظام العراقي وارتكبتها الدول العربية وقادت إلى الكارثة؟ مثال آخر. أحداث ما اسمي «الربيع العربي» التي شهدتها دولنا العربية وكانت زلزالا هز الدول والمجتمعات. حتى يومنا هذا لم نسمع انه في أي دولة عربية جرت أي دراسة موضوعية محايدة لتقييم ما جرى بشكل صريح وتحديد الأسباب التي قادت إلى هذه الأحداث والأخطاء التي ارتكبتها الحكومات وأوجه الخلل السياسية والاجتماعية، والدروس التي يجب أن نتعلمها من كل هذا لتصحيح المسار ومعالجة الأخطاء. وغير هذا امثلة كثيرة يمكن ان نسوقها. هذا اذن هو الفرق بيننا وبينهم. هم يحرصون على معرفة اخطائهم وجوانب الضعف لديهم وتعلم الدروس من اجل تطوير الأداء في المستقبل على كل المستويات. ونحن لا يعنينا في شيء تعلم هذه الأمور. كل ما يعنينا في الحقيقة هو الشكر والاشادة والمديح، ولا احد يريد ان يستمع إلى خطأ ارتكبه أصلا.
مشاركة :