كثيراً ما يصادف قارئ الكتابات السياسية وبخاصة في المساجلات الإيديولوجية السياسية عبارة: النزعة الشعبوية، للدلالة على ضعف الموقف السياسي للخصم. وبغض النظر عن بعد الصراع العيني لهذه العبارة، يمكن الإشارة إلى أن تلك النزعة قد تأخذ شكلاً سياسياً يمينياً، كما قد تتّخذ شكلاً يسارياً، إلا أن آثارها لا تختلف، في الجوهر، ومن حيث سلبيّتها وخطورتها، في الممارسة السياسية. فالنزعة الشعبوية اليمينية تزعم لنفسها كونها التجسيد الملموس والكامل لقيم الشعب الأصلية والحريصة على تحقيق أمجاد الشعب وروحه، في حين أن النزعة الشعبوية ذات النزعة اليسارية تركب مركب الإرادة المتهوّرة باسم الدفاع عن مصالح الشعب المستقبلية مجسّدة في القوى الحية فيه، وهي غالباً ما ترادف الطبقات الكادحة، والشرائح الاجتماعية المعوزة من المواطنين. تعتمد الأولى الزعامة الشخصية الفريدة والاستثنائية كما تعتمدها الثانية: الزعيم الأب المرجعية والمهيمن على كل الهيئات الوسيطة إن وجدت، لأنه غالباً ما تكون شكلية ولا تقوم بأي دور أساسي في الحياة العامة خارج إضفاء الشرعية على قرارات الزعيم والترويج لها، في مختلف المجالات والميادين. النازية الألمانية والفاشية الإيطالية هما شكلان دالان في هذا المجال. لقد كان هتلر في ألمانيا كما كان موسوليني في إيطاليا، المصدر الرئيسي إن لم يكن الوحيد، للقرار، بما يجعل الدولة مختزلة في مضمون إرادة هذا وذاك. وقد تم التنظير لهذا النوع من الشعبوية على المستويات الإيديولوجية والقانونية، لفرضها على المجتمع بطريقة ناعمة، غالباً ما تتحوّل إلى طريقة قهرية لا تكتفي بالاعتقالات الجماعية للمواطنين الذين أبانوا عن تذمّر من النازية والفاشية، ولا تتورع عن تصفية الخصوم الجسدية بواسطة ليالي السكاكين الطويلة، أو باستخدام معسكرات الاعتقال الجماعي والتصفيات على أسس فلسفية أو إيديولوجية أو عرقية. ومن بين النتائج الملموسة لهذه النزعة، تدمير كل المؤسسات التمثيلية، وتحويلها إلى مؤسسات فارغة من أي محتوى، الأمر الذي جعلها تجسّد الفراغ بين سلطة الزعيم وبطانته وبين سائر المواطنين. وغنيّ عن التذكير بأن الممارسة التي لا تعتمد الوسائط المؤسساتية، ممارسة تنطوي على عدد كبير من المخاطر على المجتمع والدولة، على المدى المتوسّط والبعيد، إن لم يكن على المدى القريب أو المباشر، لأنها تضع الأسس الفعلية للانفجار الاجتماعي والفوضى السياسية التي قد تأتي على مكتسبات المجتمع كافة، وتدمّر مقدرات الوطن على مختلف المستويات، في زمن قياسي. ولا يغيّر من هذه الحقيقة زعم بعض الحركات الشعبوية، كونها ترغب في تحقيق الديموقراطية المباشرة باعتبارها الديموقراطية الحقيقية، لأن كل تفويض للسلطة وعلى أي مستوى من المستويات، يؤدي إلى وأد الديموقراطية. ولعل هذا النوع من التفكير هو الذي دفع الزعيم الليبي السابق معمر القذافي إلى التنظير لتصوّره حول عصر الجماهير والجماهيرية، حيث تم تحريم كل التنظيمات الحزبية وجعل العمل الحزبي مرادفاً للخيانة، كما يدل على ذلك شعار «من تحزّب خان». ولعلّه من المفارقات الغريبة، أن نجد من بين المنظّرين للديموقراطية المباشرة ومنتقدي البعد التمثيلي في الديموقراطية الحديثة، شخصية كبيرة من طراز الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. إن التوقّف عند الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في مصر في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، والتي أدّت إلى إسقاط نظام الرئيس حسني مبارك في 11 شباط (فبراير) من العام نفسه، يسمح، بتأكيد بعض الحقائق السياسية المهمة: أولاً، تركيز زعماء الحركة على أنهم لا ينطلقون من أي أجندة سياسية، وأن السياسة، بالنسبة إليهم، تظلّ حقيرة وينبغي بالتالي، نبذها والتحرّر من ألاعيبها وعدم الوقوع في حبائلها. والحال، أن شعار إسقاط النظام الذي كان يتردّد في ميدان التحرير، وفي غيره من المناطق والساحات، التي شملتها حركة الاحتجاج، هو شعار سياسي استراتيجي بامتياز، لأنه يكثّف برنامجاً من المطالب لا يكتفي بما هو اجتماعي منها، وإنما يطرح إعادة النظر، بصورية جذرية، في النظام السياسي وقواعده ومؤسساته وطرق اشتغاله. وقد جاءت البيانات الصادرة عن هذه التجمّعات بعد فرض تنحّي الرئيس مبارك عن السلطة، واستلام القوات المسلحة لشؤون إدارة البلاد، لتكشف البعد السياسي الجذري لهذه الحركة الاحتجاجية، ولتكذّب كل ادعاءات الطلاق الجذري مع السياسة وأساليبها، بحيث يمكن القول إن السياسة اختارت لنفسها أن تتجلّى في خطاب ظاهره غير سياسي بينما كل أهدافه ومراميه سياسية على مختلف المستويات. ثانياً، ليس هناك ما يدفع إلى الاعتقاد أن هذه النزعة قد توارت بصورة واضحة إلى خلفية المشهد السياسي المصري بعد إجراء الانتخابات الرئاسية في مصر، حيث أتت صناديق الاقتراع بالدكتور محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين، ليكون أداة صراعها السياسي مع مختلف القوى الليبرالية والقومية واليسارية. بل يمكن الوقوف، على العكس من ذلك، على ممارسات هي من صلب النزعة الشعبوية، وهي صادرة عن الرئيس المنتخب ذاته على رغم أن طريقه إلى السلطة كان في ظرف سياسي شبه طبيعي شكلاً. لكن ما أن وضع محمد مرسي خلفه جلّ وعوده بممارسة الحكم بشفافية واعتدال أكثر، حتى برزت الى السطح ممارسات شعوبية خطيرة، بعضها يتعلّق بمحاولة الزج بشكل رسمي بالجيش المصري في معارك تعتقد قيادات الجيش أنها ليست معاركها، وبخاصة في موضوع الأزمة السورية حيث تصرّف مرسي بطريقة أقل ما يقال فيها، إنها شعبوية خطيرة، ولا سيما في مؤتمر دولي لنصرة الشعب السوري، رعاه التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في القاهرة، حيث أرغى مرسي وأزبد، بطريقة لا تقبل التبرير، وتنم عن لا مسؤولية منقطعة النظير. وقد رأى كثير من المراقبين في هذا الموقف غير محسوب النتائج بدقّة، بل والمتهور الى حدّ بعيد، القشة التي قصمت ظهر بعير الرئيس الإخواني في مصر، لأنها الدليل الذي لا يقبل الإنكار على أنه ليس أهلاً للمسؤولية الأولى في دولة بحجم مصر ودورها التاريخي تجاه القضايا العربية البينية والإقليمية. * كاتب وباحث مغربي
مشاركة :