لا أدري ما الذي حفّزني على الخروج من البيت ثانية على غير عادتي، كنت قد عدت لمنزلي متأخراً في ليل كانون البارد، لكن صديقيّ العزيزين أصرّا أن ألاقيهما في بار صغير لم أسمع به من قبل، صراحة شعرت بضرورة الخروج لتدعيم صداقتي الطويلة مع رمزي الذي عرفته لأكـثر من 30 سنة، حياتنا متشابهة لدرجة كبيرة ولو لم نكن نعرف ذلك، اما جهاد، فعرفته أقلّ من 6 سنوات دخل على شلّتنا لأنه بكلّ صراحة متهوّر يحبّ الحياة فوجد فينا شلّة ذكور في منتصف العمر نعيش الحياة وكأننا مراهقون، لا شيء يصعب علينا ومواهبنا مختلفة مثل شخصياتنا، لكننا نجمع كل المؤهلات والمهارات لإخراج حفلات أسبوعية تـضاهي ليالي ألف ليلة وليلة بكلّ معنى الكلمة، ليالي مجون الشرق الذي أتقناه بعد 5000 عام من الحضارة المتراكمة. جلسنا على الرصيف، كراسي بسيطة خلف ستار نباتي شبه ميت يؤمّن شيئاً من الخصوصية للجالسين في منتصف الشارع المعتم أوائل شهر نوفمبر الماضى، كانا مع أدهم، صديق مشترك لنا ينتقل بين الطاولات الثلاث العامرة في البار ومعهما بنات لم أراهن من قبل، طلبت الويسكي المعتاد مخففاً بعيارين مياه وكومة ثلج كبيرة، فقد بدأت أعدّ السعرات الحرارية التي اتناولها، لم أعد قادراَ أن اشرب ما أريده وأن ابقى مقاس 50، فانا أفضّل أن أبقى في البيت مرتدياً تراك سوت على الخروج بملابس قياس 52. صبيتان تعملان مضيفتي طيران، يبدو انهما معتادتان على الخط الذي يربط مدينتينا، لم أسأل حتى كيف تعرفتا على صديقيّ، بالرغم من سنهما اليافعة وابتسامتهما الواسعة لم يخطر على بالي إلا التساؤل: لماذا هما معنا أو بالأحرى لماذا نحن معهما؟ إحداهما كانت تتكلّم عن ركّاب الخط الذي يصل مدينتينا النمطيتين، تسخر من نسائنا ومتطلباتهن وطريقتهن في الكلام مع المضيفات، فجأة انضمّت إلينا فاتنة بدت عليها كلّ معالم الرخاء والثقة وهي تطلب من جهاد سيجارة على ما أذكر، وقفت الساعة بالنسبة لي وأصبح صوت المضيفتين مؤلماً، أردت أن أسمع نظراتها وأن أرى كلامها للتعرّف إليها أكثر. من هذه السمراء التي ترتدي جاكيت من الجلد الأسود والتي أظفارها مطلية باللون الأزرق-الأسود؟ وجدت نفسي أوجّه الكلام لصديقي أدهم أبارك له بسخرية على ساعة رولكس كانت على معصمه، فما كان له الا ان يقول لي انه ورثها عن والده، هاجمته على مظاهر الثراء التي نتفاداها كلّنا حفاظاً على شيء من الخصوصية، فالظهور والتظاهر لا فائدة منهما إلا جلب المستفيدين، يبدو أنني استفزّزت جنا بتهجمي على أدهم، حتماً هذه كانت نيتي، فسألتها بشيء من الفوقية المصطنعة لخلق حاجب بيننا أو لاستعراض عضلاتي: ماذا تفعلين في حياتك يا جنا؟ قبل أن تجيبني، اقترب زوجها الذي كان في طاولة أخرى ليقول لها: دقائق ونذهب، كانت تريد العودة للبيت بعد منتصف الليل، لم يخطر لي ان لديها ولدين عليها تحضيرهما للمدرسة في السابعة صباحاَ قبل أن تـذهب لعملها. زوجها من عمرها كان يرتدي تي شيرت بيضاء قصيرة الأكمام وعضلاته تطفح، على معصميه عدة اساور مربوطة، لكل واحدة منها قصّة أبيخ من الأخرى. دقائق بعد جلوسها قربي، شعرت أن تياراً كهربائياً منخفض الفولتاج يجذبنا. جلست قبالتها، أمامي طاقة إيجابية يصدفها الانسان مرتين أو ثلاثاً في الحياة، الجاكيت الجلد الأسود كل ما أذكره بوضوح لو اردت أن ارسمها مرتدية ثيابها، فقد طغت علي طريقة جلوسها قربي، ساحلةّ شيئاَ ما في الكرسي، بنطلونها الأسود يظهر ان الدهن عليها لا يتعدى ال10 بالمئة، المعدل الممتاز لعارضات المايوهات في ميامي، لا أذكر ان كانت تدخن معنا سيجارة آم لا، لكنني آذكر ان حديثنا كان عميقاً، عمّ حدّثتها؟ أذكر كيف كانت جالسة قربي، دون أن تضع رجلاً على رجل، قدماها على الأرض، مقاس 38.5 حتماَ، ركبتاها على بعد عشر أصابع إحداهما عن الأخرى، نعم، هذا كلّ ما أذكره في لقائنا الأول في حياتنا هذه. أخبرتني أنها مديرة تسويق، علامات الذوق الرفيع في لهجتها الناعمة، أوّل مرّة لا أحكم على فتاة تخلط العربي بالانكليزي، فجأة لم أعد اتحسس للاستعمار ومخلفاته، أعتقد انها كانت تنتعل حذاء رياضياً من دون كعب، لكنه لم يكن اديداس او نايكي...كان إيطالياً من آخر صيحات ميلانو. طريقة جلوسها أعلنت لي: مثلي مثلك، انا حرّة، انا أفهمك، انا أنا. ظهر زوجها مجدداَ لثوانٍ واختفى، لم أفهم شيئاَ، وهي لم تلحّ عليه للذهاب. لا أذكر عمّا تحدثنا، لكنني أذكر أن كل كلمة قلتها أنا كانت مدروسة ساعات طويلة، نسيت من أنا ونسيت من معنا، رأيت جهاد ينظر إلينا وكأنه شعر بالتيار الصاعق الذي يمرّ على بعد امتار منه، عيناه قالتا لي: "يا ابن الكلب وقعت". جنا واثقة من جمالها، تعرف أنها من التوب 5 بنات في مدينتنا المليونية، السرّ يكمن في جلوسها على الكرسي، ليست ياسمينة وليست وردة، هي كوب مليء بالأحساس والذكاء، هذا سرّ جنا، لا تسكن داخل أنوثتها، أنوثتها ليست الا شيئاً من شخصها، جنا الجيل الجديد المتمكّن الذي يفيض بالحياة ويغمز لكلّ من يستهويه دون قيد ودون حساب. قلّما تعشق الروح في سنّ النضوج، قلّما يحلم القلب وتتسارع موجات الدماغ هذه الايام، لكننا مبرمجون لنفهم كل ذلك بدقائق ثلاث ليس إلا. كان حديثنا شيقاَ، أبدت اهتماماَ بكلّ كلمة قلتها لها وكأنها تعرفني أو تنتظرني ثم قلت لها فجأة: تعرفين كم انت جميلة؟ كثر هن البنات اللواتي يحببن رجالاَ من عمر والدهن، لأول مرّة أشعر أنني كبرت في السنّ، وحتى لو بدوت أصغر من عمري بسنوات عديدة، مؤخراَ لاحظت أن الجلد حول عنقي لم يعد مثلما كان، الكبر بشع. بعد تفكير دام عشر ثوانٍ أبدية، لم أجد نفسي إلا مغادراً أصدقائي دون حتى أن ألتفت لاحدهم، حتى جنا، لم أنظر لها عندما غادرت. وانا أقود سيارتي عائداَ لبيتي، آدركت أنني صعقت، فرحت بالصدفة الجميلة، تذكرت نظرة جهاد لي، قارنت المضيفتين الزائرتين المشرفتين على ليلة حمراء ستنتهي فور نشوة الصديقين، أما انا فهوسي الجديد ما زال جنين. استذكرت حديثنا، لم أذكر الكثير إلا انها كانت تصغي لي وكأنني الرجل الوحيد في المدينة، كان شعرها الأسود الناعم مضبوباً بأناقة راقصات الباليه، طولها يعادل طولي، كنت أسمع ان الطول ثلثا الجمال، والآن اقتنعت بتلك المقولة، تخيلتني معها ... كنت على يقين أنني لعبتها جامدة عندما غادرت من دون أي إشارة أو نظرة، غادرت خلال حديث شيق وكأنها عابرة سبيل لن ألتقيها ثانيةَ. ما العمل الآن؟ هل هذه بداية علاقة خطرة منحرفة جديدة؟ يتبع... هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. كمال مارديني مطوّر برمجيات وموسيقي محترف مقيم في السويد كلمات مفتاحية الحب التعليقات
مشاركة :