لنعطي أنفسنا فرصة لنتجسد غيرنا، نتلبسه وننظر من داخله، نستعمل وعيه، عقله، عيونه، مشاعره، لنفهم كيف يفكر وينظر إلى الأشياء، كيف تتسرب إليه الفكرة فتستحكم على مشاعره فلا ينظر في الوجود غيرها، وكيف تجعل بينه وبين مُناصحِيه برزخا لا يبغي معه سماع أي فكرة تخالفه. كيف تتحول هذه الفكرة إلى "سلوك" و"رؤية" يرى خلالها الناس والأحداث والأحوال، ومن ثم يستعد أن يضحي بكل شيء في سبيلها، يضحي بأمه، ووالده، وولده، وبيته، مجتمعه وأسرته، وأخيرا يبذل نفسه رخيصة في سبيل هذه الفكرة التي تسللت إليه عبر نافذة إلكترونية، أو في جلسة خلوية، أو عبر صفحة من كتاب أو مقال، أو شريط صوتي، أو مقطع مرئي. الناس في تلقي الأفكار أصناف متفاوتة، منهم مثل الأرض السهلة اللينة التي تنبت العشب بمجرد أن ينزل عليها الماء، ومنهم مثل الأرض الشديدة التي تحتاج إلى حرث شاق حتى تنبت وتصلح، ومنهم مثل الأرض الصبخة التي لا تنبت مهما حاول المرء إصلاحها. وهكذا النفوس في تلقيها المعارف والمعلومات، منهم من تقع في نفسه الفكرة فيتشربها مباشرة وتنغرس فيه فلا تجتث إلا بشق الأنفس، ومنهم من تواجه المعلومة صلابة في نفسه فلا يتقبلها إلا بعد التأمل والحرث والتفكير والتدبر، ومنهم من لا يرفع بالأفكار رأسا، فهو مثل الأرض الجدباء الصبخة التي لا تنبث زرعا ولا تخرج كلأ. حين يواجه الشاب حالة "الاستقطاب" للأفكار أيا كانت، دينية متطرفة، أو وضعية ملحدة، أو علمانية شمولية، فإن إدراكه يخضع لمعنيين مهمين: 1- "معنى الحياة" و2- "معنى الدين" وهما اللذان يحددان مساره في قبول الفكرة من عدمها، فمعنى "الحياة" الإيجابي بالنسبة للمرء هو الذي يحميه من ركوب موجات "العدمية" التي تؤدي إلى فناء الإنسان وتفككه ومن ثم سهولة التضحية بذاته، واعتباره أن العدم والوجود وجهان لعملة واحدة. ومعنى "الدين" الإيجابي هو الذي يحمي المرء من ركوب موجه "النقمة والعنف والقتل والتعطش للدم" إذا كان يرى أن الدين جاء للإفناء ولم يأت للهداية والرحمة. إن هذه المعاني للدين والحياة قد تحكمها ظروف خاصة تمر بالمرء، وتؤثر الثانية في الأولى، وعلى قدر رؤية الإنسان لـ"الحياة" ينعكس ذلك على رؤيته لـ"الدين"، إذ الحياة هي مستودع الدين، ومجاله الذي يشتغل به، والإنسان هو محور عمل الدين في الحياة، فإن كان المقصد من الدين إفناء الإنسان فإنه يفني المهج التي تحمل الدين، وبهذا لا يبقى للحياة أي معنى في ذات المتطرف، فيكون غاية الحياة عنده هي غاية الفناء للآخرين. هذه المقدمة تعني أن الذي يحدد الطريق الأول لسلوك المتطرف سبيل الإرهاب والعنف هو تحديده لمعنى الحياة ومعنى الدين، فإدراك الإنسان قيمة الحياة، قيمة الأشياء التي تحيطه من كل جانب هو الذي يجعله يتشبث بها، وكلما أحيط الإنسان بالعطف والحنان، البيئة الصحية الاجتماعية التي يشعر معها بالاطمئنان كلما كانت للحياة معنى أرقى، وكلما كانت حياته شقية بئيسة كانت بينه وبين الحياة نقمة وعداوة، والمشكل في هذا أن العلاقة بين الدين والحياة علاقة جدلية، فقد يأتي للإنسان المستقيم المتصالح مع الحياة معنى دينيا فاسدا فيفسدها ويدمر رؤيته للحياة، فتكون حماية المرء من الانحراف والتطرف هو في فهم الدين والحياة وعلاقتهما التي يخدم بعضهما البعض. في الخطاب القرآني نجد ترتيب العلاقة بين الدين والحياة، إذ يقرر القرآن أن الحياة بكل ما فيها قد سخرها الله تعالى للإنسان، لحياته وسعادته: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"، فينظر إلى الحياة على أنها منة من الله ونعمة وفضل اختص بها الإنسان من بين جميع مخلوقاته، ويسعى إلى حمايتها من "الفساد" بكل أنواعه وأشكاله، لأن الفساد يظهر في الحياة بما تعمل أيدي الناس: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون"، ثم جاء الدين ليرتب العلاقة بين البشر بما يصلح حياتهم، إذ صلاح الحياة مقصود ديني، ولذا كان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي"، فجاءت شرائع الإسلام لتنظم علاقة الفرد بالأشياء، بالآخرين، بمجالات الحياة المختلفة حتى يسعد في هذه الحياة، ولو لم يكن هذا مقصود الدين لما تمنى النبي عليه السلام وصحبه الغنى والمتعة وطول العمر، بل جعل طول العمر علامة على الخيرية إن هو اقترن بالعمل الصالح: "خيركم من طال عمره وحسن عمله"، وعليه فلا يكون إزهاق النفس إلا بقضية كبرى يكون فيها فلاح الدين وسلامة الناس والحياة، فيلغي الدين الحالة العبثية التي يفعلها المتطرف حين يزهق حياته وحياة غيره بلا قيمة ولا فائدة ولا هدف سوى النقمة والتهور. ومما يدل على أن إفناء النفوس ليس مقصودا في ذاته، وأن الإنسان كلما زاد عمره زادت حسناته في الآخرة ما ثبت في الحديث عن طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه: أن رجلين من بلي قدما على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض. رواه ابن ماجة وأحمد. إن من معاني تجديد الخطاب الديني زرع قيمة الحياة في نفوس الشباب والأجيال، وإن الجهاد في سبيل الحياة يؤجر عليه المرء، وإن طلب الموت بلا قيمة هو فرار من هذا الجهاد العظيم، ولذا جعلت الشريعة قتل النفس من الموبقات الكبرى، وللأسف فإن "الخطاب التزهيدي" الذي يفصل المرء عن الحياة شعوريا ينتج لنا قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، فلنعطف على أبنائنا، ولنبن في شعورهم معنى الحياة والجمال والمحبة.
مشاركة :