ليس من رأى كمن سمع، فما بالك إذا حالفك الحظ، وكنت أكثر قرباً من الحدث، تعايش أبطاله يومياً، تحمل في يدك قلماً، ولديك عيون تراقب، وذاكرة تسجل الأحداث وتحللها، وتستخلص منها النتائج. أحسب أن هذا هو حالي برفقة المنتخب القطري لكرة القدم الذي احتفلت به الدولة والشعب والمقيمون أمس الأول، وبإنجازه التاريخي المتمثل في التتويج بكأس آسيا للمرة الأولى في تاريخ قطر، وبأرقام قياسية غير مسبوقة في سجل البطولة.حرمنا من متابعة المنتخب في الدور الأول للبطولة التي استضافتها الإمارات، لأن جهة ما أرادت تغييب الإعلام القطري عن البطولة، كما غابت الجماهير، فوقفت حائلاً بيننا وبين الدخول عبر بوابة دبي، واكتفت ببساطة بإعادتنا من حيث جئنا بعد ساعات طويلة من الانتظار، ويا لمحاسن الصدف، فقد كانت العودة إلى عمان، والتي عدنا عن طريقها مرة أخرى، لنكون شهوداً على ملحمة كبيرة سطرها العمانيون الذين رفضوا أن يكون الأدعم غريباً في ملاعب الإمارات، في حين تجد كل المنتخبات الأخرى مناصرين لها، فشكلوا لوحة زاهية خاصة في المباراة النهائية، ليساهموا بقدر كبير في التتويج التاريخي للمنتخب. المهم عندما دخلناها هذه المرة -الإمارات- عبر بوابة أبوظبي، كانت المعاملة مختلفة، فالدخول لم يكلف سوى نظرة من الموظف على التأشيرة، ومنا على جهاز البصمة.. هذه السهولة في الدخول، التي تركت عندي ألف علامة استفهام، لم أجد لها إجابة حتى الآن.. وشتان ما بين استقبال واستقبال!! ونحن نعبر بوابات مطار أبوظبي زفّت لنا البشرى بفوز الأدعم على السعودية في ختام دور المجموعات بهدفين. وبين الشك واليقين بقدرة المنتخب على الذهاب أبعد من ذلك، وهو يصطدم بأسود الرافدين أبطال نسخة 2007، بدأ عملنا في اليوم التالي مباشرة بمتابعة التحضيرات وملاحقة الأخبار، لنكون شهود عصر بعد ذلك على ملامح من كواليس هذه المسيرة الظافرة للأدعم، وهو يقهر بطلاً تلو بطل، ويعبر مرحلة إثر أخرى.. كانت البداية بأسود الرافدين الذي فاز عليه بهدف، وتلاه الشمشون الكوري بالنتيجة ذاتها، ثم الإمارات بنجومها وجمهورها وداخل ملعب محمد بن زايد المسمى عندهم بملعب الانتصارات والذي تحول بالنسبة لهم إلى ملعب الانكسارات، بعد أن نال فيه الأبيض هزيمة نكراء برباعية، أما بالنسبة للأدعم، فكان وكأنهم يلعبون في استاد جاسم بن حمد بنادي السد، الذي يحمل اللقب نفسه. الفوز على منتخب الإمارات لم يكن حدثاً عادياً.. أن تواجه صاحب الأرض، وفي نصف نهائي بطولة هي الأكبر في القارة، ووسط أكثر من 38 ألف متفرج يقفون ضدك.. يا له من ضغط رهيب يزلزل الأرض تحت أقدام لاعبيك، ويجعلك تتمنى فقط لهم السلامة والخروج بأقل الأضرار. وسط أجواء مشحونة، وهتافات بغيضة، دخل اللاعبون المباراة بأعصاب من حديد، ومعنويات تعانق عنان السماء، وقد كان كل منهم يعرف ما عليه القيام به من عمل، فكان أن سطروا الملحمة، وهم يسجلون الأهداف واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة. إذا قلت إنني قد استوعبت الأمر وأنا خارج من الملعب بعد نهاية المباراة لكنت كاذباً.. ولا أخفي عليكم أن هذا الإحساس قد تكرر معي طيلة مرافقتي للمنتخب في هذه البطولة، وتحديداً في المباراة التي سبقتها أمام كوريا، ومواجهة التتويج أمام اليابان. فكل مباراة من هذه المواجهات الثلاث كانت لها قصة مختلفة، وللفوز بها مذاق آخر.. هذه الانتصارات وهذا التتويج بالتأكيد كانت خلفه كواليس وجنود مجهولون من عمال وإداريين وجهاز طبي وجهاز فني، ساهم كل منهم بقدر، بعد أن قام بدوره على أكمل وجه، لتهيئة الأجواء المناسبة للاعبين، ليكون كل تركيزهم داخل الملعب. 23 محارباً إذا أردنا الحديث عن مسببات هذا التتويج التاريخي فلا بد أن نبدأ باللاعبين، فالمدرب اختار 23 لاعباً، ولكن في البطولة اكتشفنا أنهم 23 محارباً.. قاتلوا بشرف، في كل المباريات، لا يوجد فرق بين لاعب أساسي وآخر احتياطي.. كلهم ذادوا عن شعار المنتخب كما ينبغي، واستبسلوا وقاتلوا قتالاً مريراً في كل المباريات، ولعل أهم ما يميز لاعبي المنتخب في هذه البطولة، أنهم كانوا كالجسد الواحد.. دائماً ما تجدهم مع بعضهم البعض، في تحركاتهم داخل الفندق وخارجه، يتعاملون مع بعضهم البعض بروح عالية، الدعابة بينهم دائماً. وفي التدريبات والمباريات تجدهم في قمة الانضباط، ولعل الأهم ثقتهم في بعضهم البعض، فإن غاب عبدالعزيز حاتم، تجده واثقاً بأن كريم بوضياف سيقدم أفضل ما لديه، وإن غاب بسام الراوي، فهو المشجع الأول لبوعلام خوخي. أخيراً مؤكد أن قائمة عناصر النجاح تشمل آخرين كثر.. قيادات في الدولة، ومسؤولين في اتحاد الكرة، وفي أسباير، هناك من خطط وراهن ليكون هؤلاء اللاعبين نجوماً في المستقبل، والبعض ظل يعمل بصبر في انتظار هذه اللحظة التاريخية. والتي نحسب أنها يفترض أن تكون بداية فقط، وخطوة في الطريق الصحيح، لمنتخب يشكل نواة وبذرة صالحة يتم إعدادها ورعايتها بهدوء، لتشكل أدعماً قوياً في كأس العالم 2022. توقعات رئيس الاتحاد تتحقق كان أول تدريب نقوم بمتابعته للمنتخب خلال كأس آسيا أنا وزميلي محمود الفضلي موفدين من لجنة الإعلام الرياضي، في اليوم التالي لوصولنا مباشرة، على ملعب القوات المسلحة بأبوظبي، وفيه التقينا سعادة الشيخ حمد بن خليفة بن أحمد، والذي حرص على الاطمئنان علينا وعلى كيفية دخولنا إلى أبوظبي.. وسألنا عن عودتنا وكيف تكون، وواصل مباشرة: «إن شاء الله تعودون معنا يوم 2-2» ومعنا كأس البطولة. وقد صدقت توقعات رئيس الاتحاد، والتي جاءت بناء على ثقته الكبيرة في أن هذا المنتخب قادر على أن يفعلها، وقد كان.. حيث واصل «الأدعم» مسيرته من نجاح إلى آخر، حتى حمل كأس البطولة وعاد به للدوحة. سانشيز أتعب معاونيه لا يمكن لأحد إغفال الدور الكبير الذي قام به الجهاز الفني بقيادة الإسباني فيليكس سانشيز، والذي أتعب معاونيه كثيراً وهو يطلب منهم السفر لتصوير مباريات كل الخصوم المحتملين، فتجد أحدهم في العين، والثاني في دبي، والثالث في أبوظبي.. وفيليكس ينطبق عليه قول الشاعر العربي رهين المحبسين أبوالعلاء المعري «وإِنـي وَإِن كنت الْأَخير زِمانه لَآَت بـمـا لــم تَسْتـطـعـه الأوَائـــل» فقد حقق ما عجز عنه أشهر المدربين الذين مروا بالمنتخب القطري، وهو مدرب يستحق الاحتفاء به ويكرم باستمراره مع المنتخب لفترة طويلة قادمة، فالرجل اجتهد كثيراً مع هذه المجموعة التي توج مع معظمها بكأس آسيا للشباب في ميانمار، وكان من أسباب نجاحه الانسجام الكبير بينه وبين اللاعبين، والثقة الكبيرة التي يوليها لهم، والالتزام الصارم منهم بتوجيهاته، وفي الوقت نفسه العلاقة الطيبة بينهم، والتي جعلت اللاعبين يدعونه بالسير فيليكس، على غرار «السير أليكس فيرجسون» المدرب التاريخي لمانشستر يونايتد. وقد أثبت السير فيليكس نجاعته الكبيرة في التعامل مع المباريات، فتجده دائماً يصيب في وضع التشكيل المناسب للمباريات، ليقود الأدعم من نجاح إلى آخر، ولو كانت هناك جائزة تمنح لأفضل مدرب في البطولة لما تخطته أبداً رغم وجود مدربين كبار مع المنتخبات المشاركة، مثل الإيطالي ليبي مدرب الصين، والسويدي سفين جوران إريكسون مدرب الفلبين، فقد تفوق سانشيز على كل الأسماء الكبيرة من المدربين، ليسطر اسمه في لائحة البطولة الذهبية. استغراب إعلامي شهدت بطولة كأس آسيا حضوراً كبيراً لوسائل الإعلام الآسيوية، وخاصة من الشرق. وقد حرصت أعداد كبيرة منهم، وتحديداً إعلاميي كوريا الجنوبية واليابان، على معرفة كل صغيرة وكبيرة عن المنتخب القطري، والأندية التي ينتمي إليها اللاعبون، وقد استغربوا كثيراً عندما علموا أن عدداً كبيراً من هؤلاء النجوم الذين أكملوا مسيرة يعجز القلم عن وصفها، ليسوا ضمن التشكيلة الرئيسية لفرقهم التي يلعبون لها. ومؤكد أن هذا الأمر لن يستمر بعد ذلك؛ فأي محترف تأتي به هذه الأندية لن يكون بمقدرة لاعبين بحجم المعز علي في الدحيل، أو طارق سلمان في السد، أو غيرهم من اللاعبين الشباب الذين نثق بأن الأندية ستعيد النظر في وضعيتهم وستجعلهم دائماً في القائمة الأساسية لكل المباريات. الصلات.. صلة بين المنتخب والإعلام من ضمن العناصر المهمة التي كان لها دور كبير في إنجاح رحلة المنتخب إلى الإمارات.. الزميل علي الصلات المنسق الإعلامي للأدعم، والذي واجه ضغوطاً كبيرة وهو المطالب بالتعامل مع موجهات ورجال الاتحاد الآسيوي، ومع إعلاميي مختلف الدول، فضلاً عن الوفد الإعلامي القطري، وقد نجح الصلات بدرجة الامتياز في أن يكون خير «صلة» بين الأدعم والإعلام.. وقام بدوره بدرجة عالية من الاحترافية، ولا غرابة في ذلك، لأن الخبرة التي يمتلكها علي الصلات، والذي عمل سنين عدداً منسقاً إعلامياً للمنتخب، كانت جواز عبوره إلى تجاوز كل الضغوط التي واجهته، لتكون مكافأته في النهاية تحقيق الأدعم اللقب التاريخي. الإمكانات الفردية هناك كثير من الأسباب التي جعلت «الأدعم» يُتوّج بهذا اللقب التاريخي، وبلاعبين معظمهم في مرحلة الشباب. ولعل أهم الأسباب هو الإمكانات الفردية للاعبين، والتي سهّلت على الجهاز الفني اختيار التشكيل والتشكيلة المناسبة لكل مباراة، وكذلك منحته الفرصة لاختبار أكثر من تشكيل خلال المباراة. وقد حصل خلال عدد من المباريات أن تحوّل التشكيل من 5-3-2، إلى 4-4-2، أو 4-3-2-1، بدون أن يُضطر الجهاز الفني إلى الاستعانة بلاعب من دكة الاحتياط. الإدارة المنضبطة من أهم العناصر التي ساهمت بقدر وافر في تتويج الأدعم باللقب، هي الجنود المجهولون يقودهم المشرف على المنتخب طلال الكعبي، وهذا الجهاز قام بعمل كبير، فهو الذي يسهر على راحة اللاعبين، ويوفر كل ما يحتاجه الجهاز الفني، ويبدو واضحاً أن الجهاز الإداري قد تم اختياره بعناية تامة، مثل اللاعبين والمدرب، فالكعبي مسؤول مشروع الأمل بأكاديمية أسباير في أوروبا. والذي تخرج منه معظم نجوم الأدعم الحاليين، بعد أن كان مسؤولاً مباشراً عنهم في أماكن احترافهم بأوروبا، يعتبر الأنسب للتعامل معهم، لأنهم جميعاً بمثابة أبنائه، وبالنظر إلى هذا الجهاز الإداري نجده مثل اللاعبين قد تميز بالانضباط، فلا أحد منهم يتخطى الدور المرسوم له، أو يقصر في عمله، وقد كانت منظومة متناغمة جداً تعمل باحترافية كبيرة، ولذلك فلا غرابة أن يكون النجاح حليفها.;
مشاركة :