ألقى المطران الياس عوده متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس، كلمة في إطار مشاركته في مؤتمر "الأخوّة الإنسانيّة" المنعقد في أبو ظبي، وإلى نص الكلمة:إخوتي وأخواتي الأحبّاء،أودُّ أوّلًا أنْ أشكُرَ منظّمي هذا المؤتمرِ العالميّ للأُخُوَّةِ الإنسانِـيَّةِ، لأنَّنَا أصبحْنَا بِأَمَسِّ الحاجَةِ إلى تَذْكِيرِ الإنسانِ بإنسانِيَّتِه، هذهِ النِّعمةِ الإلهيَّةِ الّتي يتميَّزُ بها عَنْ باقي مخلوقاتِ الأرضِ، لكنَّ المؤسِفَ في أيَّامِنَا أنَّ الإنسانَ باتَ في غالبِيَّةِ الأحيانِ لا يَـتَـمَـيَّزُ إلاَّ بِكَوْنِهِ ناطِقًا.يقولُ الكتابُ المقدَّسُ: "وَقَالَ اللهُ: نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْض. فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ" (تكوين 1: 26-27). وجاءَ في القُرآنِ الكَرِيم: "يَا أيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" (الحُجُرات 13).تُجمِعُ الآياتُ السّابِقُ ذِكْرُها على أنَّ اللهَ لَمْ يخلُقِ البَشَرَ مِنْ أجلِ أنْ يَتَذَابَحوا، أو أنْ يَتَسلَّطَ واحِدُهُم على الآخر، أو يَعْتَبِرَ نفسَهُ أَفْضَلَ مِنَ الآخر، بَلْ خلقَهُم لِيَتعارَفُوا، لِتَسُودَ المحبَّةُ فيما بَينَهم، لأنَّهُم مَخلوقونَ على صورَتِهِ كَشَبَهِه، أيّ محبِّين، لأنَّ "اللهَ محبَّة" (1يوحنا 4: 8). عِنْدَمَا خَلَقَ اللهُ الإنسانَ أَعْطَاهُ سُلطانًا أنْ يسودَ على كلِّ الخليقةِ، ما عدا أَخيهِ الإنسان. التَّحَدِّياتُ والعَوَائِقُ بدأَتْ تَظْهَرُ أمامَ تَحقِيقِ الأُخُوَّةِ الإِنسَانِيَّة، مُذْ سَوَّلَتْ لِقَايينَ نَفْسُهُ أنْ يقتُلَ أخاهُ هابيلَ الّذي اخْتَارَ أَفْضَلَ غَلاّتِهِ تَقْدِمَةً للرّبّ، فيمال َمْ يَجِدْ قايينُ أنَّهُ أَخْطأَ عندما قَدَّمَ للهِ تَقْدِمَةً مِنْ فَضَلاتِ غَلّاتِه، فَقَرَّرَ أنْ يَـقْتُلَ أَخاهُ بَدَلَ أنْ يُصْلِحَ نَفْسَه.أَلَيْسَ هذا سُلُوكَ الإِنْسانِ تُجَاهَ أَخِيه؟ أَلا يَقْتُلُ الإِنسانُ أَخَاهُ لِأَتْفَهِ الأَسْبَاب؟ أَلا يَقْتُلُ أَخَاهُ لِكَي يُظْهِرَ قُوَّتَهُ فَيَسْتَعْبِدَ الآخَرين؟سِيَاسِيًّا، إِقْتِصَادِيًّا، تِكْنُولُوجِيًّا، دِينِيًّا... هذه حالُ الإنسانِ: يُلْغِي أَخَاهُ لِيَبْرُزَ هُوَ. تَدْخُلُ الوَسَاطَاتُ فَيُطْرَدُ النَّزِيهُ وَذُو الكَفَاءَةِ، فِيمَا يُوَظَّفُ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِك. تُطْلَقُ الشَّائِعَاتُ فَتُهْدَمُ مَصَادِرُ رِزْقٍ لِتُبْنَى إِمْبَرَاطُورِيَّاتٌ فَاسِدَة. تُخْرَقُ أَنْظِمَةٌ مَعْلُومَاتِيَّةٌ لِتُنْهَبَ كُنُوزٌ فِكْرِيَّة. البَعْضُ يَتَوَسَّلُ الإيمانَ لِيُكَفِّرَ المؤمنين! أَلَيسَ اللهُ وَاحِدًا؟ كَيْفَ أُؤذِي أَخِي لِكَي أُظْهِرَ أَنَايَ؟ أَوَلَيْسَ أخي الإنسانُ مَخْلُوقًا مِثْلي على الصُّورَةِ والمِثَالِ الإِلَهِيَّيْن، مَهْمَا اخْتَلَفَ الشَّكْلُ أَوِ اللَّوْنُ أَوِ العِرْقُ أَوِ الانْتِمَاءُ الدِّينِيُّ أَوِ الطَّائِفِيّ؟ أَلَسْنَا جَمِيعًا مَفْطُورِينَ عَلَى المَحَبَّة؟ يَقُولُ أَحَدُ مُحِبِّي اللهِ الَّذِي عَاشَ مُعْظَمَ حَيَاتِهِ في القَرْنِ الثَّانِي عَشَر: "ثَمَّةَ مَنْ يَطْلُبُ المَعْرِفَةَ مِنْ أَجْلِ المَعْرِفَةِ؛ هَذَا فُضُول. وثَمَّةَ مَنْ يَطْلُبُ المَعْرِفَةَ فِي سَبِيلِ الشُّهْرَةِ؛ هَذَا كِبْرِيَاء. وثَمَّةَ مَنْ يَطْلُبُ المَعْرِفَةَ بِدَافِعِ الخِدْمَةِ؛ هَذِهِ هِيَ المَحَبَّة". ويَقُولُ فِي مَكَانٍ آخَر: "إِعْتَرِفْ أَيُّهَا الإِنْسَانُ بِأَنَّكَ صُورَةُ اللهِ وَاخْجَلْ مِنْهُ لأَنَّكَ حَجَبْتَ صُورَتَهُ بِأُخْرَى غَرِيبَة".كُلُّنَا إِخْوَةٌ لأَنَّنَا كُلَّنَا أَبْنَاءُ الله. لَكِنَّ الفِرْقَةَ تَسُودُ والفِتْنَةَ تَبْرُزُ عِنْدَمَا نَبْتَعِدُ عَنِ اللهِ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ مَآرِبَ ومَصَالِحَ شَخْصِيَّة. صَدَقَ مَنْ قَالَ إِنَّ فِتْنَةَ الإِخْوَان عُرْسٌ لِلشَّيْطَان.جِهَادُنَا جَمِيعًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ضِدَّ الشَّيْطَانِ، الَّذِي عَمِلَ، مُنْذُ بَدْءِ الخَلِيقَةِ، ولا يَزَالُ، عَلَى رَمْيِ الفِتْنَةِ بَيْنَ الإِنْسَانِ وخَالِقِهِ، وبَيْنَ الإِنْسَانِ وأَخِيهِ، بِتَنْمِيَةِ الكِبْرِيَاءِ الَّتِي هِيَ أُمُّ الخَطَايا، حَتَّى ظَنَّ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ أَفْضَلَ مِنْ أَخِيهِ، فَعَمِلَ عَلَى إِلْغَائِهِ.أَنَا أَتَيْتُكُمْ مِنْ لُبْنَانَ الحَبِيب، مَهْدِ الحَضَارَةِ والحَرْفِ والثَّقَافَة، بَلَدِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ والحُرِّيَّةِ والتَّسَامُح، حَيْثُ تَغْتَنِي الطَّوَائِفُ المُتَعَدِّدَةُ فِيهِ الوَاحِدَةُ مِنَ الأُخْرَى، يَجْمَعُهَا الحِوَارُ، رَغْمَ بَعْضِ العَثَرَاتِ. فَمُنْذُ وَسْوَسَ الخَنَّاسُ في رُؤوسِ النَّاسِ وَاجْتَاحَتْ مَوْجَةُ التَّكْفِيرِ والتَّخْوِينِ عَالَمَنَا العَرَبِيَّ، وَشَاءَ بَعْضُ المُتَدَيِّنِينَ شَنَّ الحُرُوبِ الفَاقِدَةِ الرَّحْمَةَ والمَحَبَّةَ في وَجْهِ بَعْضِهِمِ البَعْض، أَصَابَتِ العَدْوَى لُبْنَان. وبِسَبَبِ الانْهِيَارِ السِّيَاسِيِّ أَصْبَحَ اللُّبْنَانِيُّونَ، الإِخْوَةُ في الوَطَن، يَرْزَحُونَ تَحْتَ وَطْأَةِ التَّرَاجُعِ الاقْتِصَادِيِّ والاجْتِمَاعِيِّ والفِكْرِيِّ... يَقُولُ قِدِّيسُو كَنِيسَتِنَا إِذَا انْشَغَلَ الإِنْسَانُ بِخَطَايَاهُ لَنْ يَجِدَ الوَقْتَ لِيَدِينَ سِوَاه. إِذَا وَعَى كُلٌّ مِنَّا هَذَا الأَمْرَ، نَخْنُقُ مَوْجَةَ التَّخْوِينِ قَبْلَ أَنْ تُولَد.لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالَمُنَا العَرَبِيُّ يَفْتَقِدُ أَدْنَى مُقَوِّمَاتِ الأُخُوَّة، أَيِّ المَحَبَّة، لَمَا كُنَّا بِحَاجَةٍ إِلَى مُؤْتَمَرَاتٍ عَالَمِيَّةٍ لِلتَّذْكِيرِ بِهَذِه البَدِيهِيَّات. هُنَا يَأْتِي دَوْرُ الدِّينِ، الَّذِي أَسَاسُهُ اللهُ الوَاحِدُ، ليَكُونَ المُـنَـبِّهَ والمُذَكِّرَ، والمُرْتَكَزَ لإِرْسَاءِ ثَقَافَةِ التَّآخِي فِي مُخْتَلَفِ المُجْتَمَعَاتِ الإِنْسَانِيَّة. بِمَا أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ أَخٌ لِلمُؤمِنِ الآخَر. يَقُولُ الرَّسُولُ يُوحَنَّا الإنجيليّ: "إِنْ قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ اللهَ، وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟" (1 يوحنّا 4: 20). وجَاءَ في القرآنِ الكَرِيم: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَة" (الحُجُرات 10). مَحَبَّةُ الإِنْسَانِ، كُلِّ إِنْسَان، هِيَ طَرِيقٌ مَضْمُونٌ نَحْوَ الله.المَحَبَّةُ لا تَنْفِي فَرَادَةَ الإِنْسَان. المَحَبَّةُ تَدْفَعُ الإِنْسَانَ إِلَى احْتِرَامِ الآخَرِ المُخْتَلِف. فإِذَا عَمِلَ كُلُّ القَادَةِ الدِّينِيِّينَ والسِّيَاسِيِّينَ عَلَى بَثِّ رُوحِ المَحَبَّة، أَصْبَحَ الجَمِيعُ إِخْوَةً لأَبٍ وَاحِدٍ هُوَ الله. هَذَا مَا تُحَاوِلُ دَوْلَةُ الإِمَارَاتِ العَرَبِيَّةِ المُتَّحِدَة القِيَامَ بِهِ، وَقَدْ أَصْبَحَتْ فِي طَلِيعَةِ البُلْدَانِ العَرَبِيَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى المَحَبَّةِ والتَّسَامُح وتَقَبُّلِ فَرَادَةِ الآخَرِ، إِنْ مِنْ خِلالِ إِنْشَاءِ وِزَارَةٍ خَاصَّةٍ بِالتَّسَامُح، أَوْ مِنْ خِلالِ مُؤْتَمَرَاتِ التَّوْعِيَةِ وآخِرُهَا مَا نَشْهَدُهُ حَالِيًّا. كَنِيسَتُنا الأرثوذكسيّةُ الأَنْطَاكِيَّة، الَّتِي تُشَكِّلُ أَبْرَشِيَّتُنَا فِي بَيْرُوتَ إِحْدَى رَكَائِزِهَا، لَيْسَتْ بَعِيدَةً عَنْ هَذِهِ الرُّوح، لأَنَّ كَنِيسَتَنَا كَانَتْ مُنْذُ أسَّسها الرّسولان بطرس وبولس، ولا تَزَالُ فِي أَيَّامِنَا، تَدْعُو إِلَى المَحَبَّةِ والأُخُوَّةِ بَيْنَ البَشَر، وإلى التَّسَامُحِ، وَاحْتِرَامِ الآخَر، وقَبُولِه، وَاعْتِمَادِ الحِوَارِ لِحَلِّ الإِشْكَالات.هُنَا لا بُدَّ مِنَ الإِشَارَةِ إِلَى زيارة الحَبْرِ الأَعْظَم، البَابَا فرَنْسِيس، إلى هذا البلد الشّقيق، وقَدَاسَتُهُ يَعْمَلُ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى بَثِّ رُوحِ المَحَبَّةِ والتَّآخِي في الغَرْبِ المَسِيحِيِّ خُصُوصًا والعَالَمِ أَجْمَع. يُعَلِّمُنا الرّبُّ يسوعُ أَنْ نُحِبَّ قَوْلًا وفِعْلًا، وهَذَا مَا نُطَبِّقُهُ فِي أَنْطَاكِيَةَ مِنْ خِلالِ تَقْدِيمِ المَحَبَّةِ الإِلَهِيَّةِ لِلجَمِيعِ بدُونَ تَفرِقَة، إِنْ مِنْ خِلالِ إِطْعَامِ الجِيَاع، وكُسْوَةِ العُرَاة، أو تَنشِئَةِ الإِنْسَانِ على القِيَمِ وأَهَمُّهَا احترامُ الاخْتِلافِ والتَّنَوُّعِ والحُرِّيَّةِ والمُوَاطَنَة، مِنْ خِلالِ المُؤَسَّسَاتِ التَّرْبَوِيَّةِ والطِّبِّيَّةِ والإِجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي نُنْشِئُها ونُؤَسِّسُهَا عَلَى صَخْرَةِ المَحَبَّةِ والإاحْتِرَامِ والتَّسَامُحِ والإِخَاء.كذلك لا بد من ذِكْرِ الإمام الأكبر د. أحمد الطّيّب، شيخِ الأزهر الشّريف، الّذي عرفناه عن قُرب، والمعروفِ بروحانيّتِه العميقة ومحبّتِه الّتي لا حدودَ لها، الّتي تشملُ كلَّ إنسانٍ من دون تمييزٍ أو تحيَّزٍ.لَيْسَ الدِّينُ نَظَرِيَّاتٍ وكلامًا فَقَط، بَلْ فِعْلُ مَحَبَّةٍ يُظْهِرُهُ الإِنْسَانُ تُجَاهَ أَخِيهِ الإِنْسَان. قَالَ الرَّبُّ يَسُوعُ فِي الإِنْجِيل: "تَعَالَوا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا المَلَكُوتَ المُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ العَالَمِ، لأَنِّي جِعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَـيْـتُـمُـونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِلَيَّ... مَا فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاءِ الصِّغَار، بِي قَدْ فَعَلْتُمُوه" (متّى 25: 34-36 و40). لا نَسْتَطِيعُ، كَقَادَةٍ دِينِيِّينَ، أنْ نُطْلِقَ الآراءَ اللاَّهُوتِيَّةَ والنَّظَرِيَّةَ والتَّنْزِيهِيَّةَ والفِقْهِيَّةَ والشَّرْعِيَّة، والإِنْسَانُ وَاقِفٌ أَمَامَنَا يَشْتَهِي لُقْمَةَ العَيْش. المَسِيحُ نَفْسُهُ أَقْرَنَ القَوْلَ بِالفِعْلِ إِذْ كانَ يُطْعِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْتُونَ لِسَمَاعِ كَلامِه، فَكَانَ يُشْبِعُ أجْسَادَهُمْ وأرواحَهُم. لا يُمْكِنُنَا إِيصَالُ حَقِيقَةِ اللهِ إِلَى النَّاسِ مَا دَامُوا يَفْتَقِرُونَ إلى أَدْنَى ضَرُورَاتِ الحَيَاة. نَعَم، نَحْنُ أَمَامَ تَحَدِّيَاتٍ كَبِيرَة. إِنْسَانُ هَذَا القَرْنِ جَائِعٌ، مُهَجَّرٌ، مَقْهُورٌ، وتَائِه. وَهُوَسَجِينُ إِيديُولُوجِيَّاتٍ وعَصَبِيَّاتٍ قَبَلِيَّةٍ ودِينِيَّةٍ وطَائِفِيَّة، لكنّه لا يَثُورُ عَلَى وَاقِعِهِ المَأْسَوِيّ، بَلْ جُلَّ مَا يُطَالِبُ بِهِ إِبْقَاءُ زَعِيمِهِ في كُرْسِيِّه، طَالَمَا يُطْعِمُهُ هَذَا الزَّعِيمُ مِنَ الفُتَاتِ الَّذِي يَفْضُلُ عَنْ مَوَائِدِه (متّى 15: 27). ومَا يَزِيدُ المَأْسَاةَ، سُوءُ اسْتِخْدَامِ جَمِيعِ الوَسَائِلِ التِّكْنُولُوجِيَّةِ ووَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيّ، الَّتِي لَمْ تَعُدْ أَدَاةَ مَنْفَعَةٍ، بَلْ أَصْبَحَتْ وَسِيلَةً لِلقَدْحِ والذَّمِّ والتَّخْوِينِ والتَّجْرِيحِ ونَشْرِ الشَّائِعَات.أَيُّهَا الإِخْوَة، إِذَا كَانَتِ الدِّيَانَاتُ الثَّلاثُ الأَسَاسِيَّةُ فِي العَالَمِ تُدْعَى سَمَاوِيَّةً، هَذَا يَعْنِي أَنَّ مَوْطِنَنَا هُوَ المَلَكُوت، ويَجِبُ أَنْ نَعْمَلَ مُنْذُ الآنَ عَلَى إِحْلالِ هَذَا المَلَكُوتِ فِي قُلُوبِ الجَمِيع. السِّيَاسَةُ والتَّعَصُّبُ وَاسْتِثْمَارُ المَشَاعِرِ الدِّينِيَّةِ في إِثَارَةِ العَصَبِيَّاتِ والعَزْفِ عَلَى وَتَرِ التَّشَدُّدِ والأُصُولِيَّةِ الدِّينِيَّةِ كُلَّمَا أَرَادَ مَسْؤُولٌ الوُصُولَ إِلَى مَآرِبِهِ، لا تُسَاعِدُ في جَعْلِ الأَرْضِ تَذَوُّقًا مُسْبَقًا لِلمَلَكُوت. عَلَيْنَا جَمِيعًا بَثُّ رُوحِ المَحَبَّةِ والتَّآخِي، والاسْتِرْشَادُ بِمَبَادِئِ الدِّينِ والأَخْلاقِ مَعَ عَدَمِ اسْتِغْلالِ الدِّينِ في أُمُورِ السِّيَاسَة. مَطْلوبٌ أَيْضًا أَنْ نُرْسِيَ مَبَادِئَ الحِوَارِ الحَقِيقِيِّ أَيِّ الصَّرَاحَةَ والصِّدْقَ والانْفِتَاحَ والشَّفَافِيَّة، وهَذِهِ لا تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالمَحَبَّةِ وتَجَاوُزِ "الأَنَا"، ونَبْذِ المَصَالِحِ الشَّخْصِيَّة، وَاحْتِرَامِ الآخَرِ وصَوْنِ حُرِّيَّتِهِ وكَرَامَتِه، والتَّمَنِّي لَهُ مَا يُتَمَنَّى لِلذَّات.لَقَدْ خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ فِي الفِرْدَوْسِ حَيْثُ التَّنَاغُمُ والمَحَبَّة. مُذْ عَصَى الإِنْسَانُ الأَوَّلُ اللهَ ورَاحَ يَلْهَثُ وَرَاءَ المَادَّة، ابْتَعَدَ عَنِ اللهِ وخَسِرَ السَّلامَ والطُّمَأْنِينَة. كلُّ عَائِلَةٍ هِيَ جَنَّةٌ مُصَغَّرَة، وكُلُّ وَطَنٍ هُوَ جَنَّةٌ صَغِيرَة، ولِكَي يَبْقَى جَنَّةً، يَجِبُ أَنْ تَتَوَازَنَ الاهْتِمَامَاتُ فِيه. فَلا يُمْكِنُ لِلسِّيَاسِيِّ أَنْ يَنْسَى اللهَ، ولا يَسْتَطِيعُ رَجُلُ الدِّينِ التَّغَاضِي عَنِ اهْتِمَامَاتِ أَبْنَائِهِ الحَيَاتِيَّة. الدِّينُ عُنْصُرٌ أَسَاسِيّ، ورَكِيزَةُ كُلِّ حِوَار، لأَنَّ أَسَاسَ الدِّينِ هُوَ اللهُ/ المَحَبَّة، وإِذَا افْتَقَدَ الحِوَارُ المَحَبَّةَ، ابْتَعَدَ عَنِ الله، وسَادَ الشَّرُّ المُتَظَهِّرُ بِكُلِّ أَشْكَالِ العَصَبِيَّاتِ الَّتِي تُلْغِي الآخَر.نَحْنُ نَتَرَاجَعُ فِي عَالَمِنَا العَرَبِيّ، لأَنَّنَا فَقَدْنَا الله، وتَمَسَّكْنَا بِالشِّعَارَاتِ الدِّينِيَّة. اللهُ لا يَطْلُبُ مِنَّا لَحَاقًا أَعْمى أَو تَطْبِيقًا حَرْفِيًّا "لأَنَّ الحَرْفَ يَقْتُلُ وَلَكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي" (2كورنثوس 3: 6). دَعُونَا جَمِيعًا نَسْتَحْضِرْ رُوحَ اللهِ في جَمِيعِ حِوَارَاتِنَا وَاجْتِمَاعَاتِنَا وسِيَاسَاتِنَا وَاقْتِصَادَاتِنَا وتِكْنُولُوجِيَّاتِنَا، وسَيَعِمُّ السَّلامُ والإِخَاءُ فِي العَالَمِ أَجْمَع: "لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ إِثْنَانِ أَوْ ثَلاثَةٌ بِاسْمِي (يَقُولُ الرَّبُّ) فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِم" (متّى 18: 20)".
مشاركة :