على هامش خمسينية معرض القاهرة الدولي للكتاب

  • 2/8/2019
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

احتفل المثقفون المصريون والعرب، ومعهم الكثير من مثقفي العالم وأدبائه ومفكريه وكتابه وصحافييه وفنانيه، منذ أيام بمرور خمسين عاماً على انطلاق معرض القاهرة الدولي للكتاب، ولا شك أن للحدث قيمته ودلالاته، خاصة من منظور تاريخي نظراً للوضعية الريادية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب وقت انطلاقه سواء على الصعيد العربي أو الإفريقي أو الإسلامي، بالإضافة إلى ما شهده المعرض من تطورات لاحقة وما مر به من مراحل فارقة في مسيرته الطويلة على مدار خمسة عقود، أضافت لرونقه وضاعفت من القاعدة العريضة التي تتطلع إليه كل عام، ليس فقط من قبل المثقفين والكتاب والأدباء والشعراء والمؤلفين وكافة المبدعين في مختلف التخصصات، بل أيضاً في صفوف المواطنين العاديين. وفي دورته الخمسين كان ضيف الشرف في المعرض هي جامعة الدولة العربية مما عبر بصدق عن العلاقة العضوية بين المعرض ومحيطه العربي وعن كونه معرضاً مصرياً عربياً في ضوء المرجعية الثقافية والفكرية العربية الشاملة. وبداية يتعين القول إن قرار بدء تنظيم معرض القاهرة الدولي للكتاب في عام 1969 كحدث ثقافي وفكري سنوي كان بقرار في ذلك الوقت من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وفي تقديري أن هذا القرار الهام والصائب يجب أن تتم قراءته ضمن منظومة متكاملة من العديد من السياسات والخيارات والقرارات الإيجابية والبناءة التي اتخذها الرئيس المصري الراحل خلال الفترة الممتدة ما بين هزيمة يونيو (حزيران) 1967 ووفاته في سبتمبر (أيلول) 1970. فبخلاف من يرى أن تلك السنوات كانت سنوات الانكسار للرئيس المصري الراحل، ومن ثم كانت أسوأ سنوات حكمه، أنتمي إلى آخرين يرون أن تلك السنوات كانت في العديد من جوانبها، سنوات النضج الأكثر اكتمالاً، فكرياً وسياسياً، للزعيم المصري والعربي الراحل. إذ أن هزيمة 5 يونيو (حزيران) أزالت الستار عن الكثير من الحقائق والوقائع التي كانت غائبة في خضم الحديث والعمل من أجل تحقيق "الأحلام الكبرى"، ومن إيجابيات مرحلة ما بين 1967 و1970 على سبيل المثال كان الاهتمام بإنشاء وتطوير مراكز البحث العلمي بعيداً عن أغراض الضجيج الدعائي، بل بهدف توصيف المشكلات بشكل موضوعي واقتراح الحلول الجادة لها من منظور فني وبعيداً عما تمليه اعتبارات الأيديولوجيا أو السياسة. كما أن من إيجابيات تلك المرحلة إرهاصات الاهتمام بالمواطن كإنسان فرد في حد ذاته، وبعيداً عن ربطه دائماً وأبداً بالمجموع، والاعتراف بأن لكل فرد خصوصيته ويجب التعامل معه على أن وجها من وجوهه أنه إنسان فرد، كما أن وجه آخر هو أنه ينتمي لمجتمع. والواقع أن فكرة بدء تنظيم معرض القاهرة الدولي للكتاب قد عكست، ضمن عوامل عديدة، الاعتبارين اللذين ذكرتهما في الفقرة السابقة، فقد استفاد المعرض من مراكز الأبحاث الجديدة ومطبوعاتها وأنشطتها ومخرجات مؤتمراتها وندواتها العلمية وأتاح لها فرصة العرض من خلال المطبوعات وتنظيم الندوات خلال المعرض، كما أنه أفادها أيضاً من جهة إتاحة الفرصة لمراكز ابحاث عالمية وإقليمية لتأتي للعاصمة المصرية لعرض منتوجها من دراسات وبحوث ومطبوعات تستفيد منها المراكز المصرية، خاصة بعد الإدراك بشكل كامل، بعد هزيمة 1967، أن مصر أو العرب لا يحتكرون العلم والمعرفة، بل إن العالم الخارجي، خاصة الغرب، والذي كان ينظر إليه قبل يونيو (حزيران) 1967 نظرة فيها الكثير من الشك والتحفز، إن لم يكن العداء، لديه الكثير مما يمكن أن يتعلم ويستفيد منه المصريون والعرب، ومن ذلك البعض الذي تعود جذوره الأولى أصلاً للحضارة العربية والإسلامية ذاتها. أما فيما يتعلق بالتعامل مع المواطن كإنسان فرد، فإن إحدى التبعات المنطقية لذلك بالضرورة كان الحرص على تشجيع هذا الإنسان على الاطلاع وتوسيع أفقه ومداركه عبر القراءة في مختلف مناحي العلوم والآداب والفنون، أو في أي منها مما يستهويه، عبر إتاحة الفرصة لذلك، على اعتبار أن إتاحة الفرصة لنمو وتطور العقل البشري استثمار رابح في كل الأحوال يحقق أكبر عائد ممكن، وأن تجربة "التابعين" بلا فهم أو وعي، أو بغرض النفاق والتملق، ثبت أن دورها كان كارثياً في عدد من التجارب العربية فيما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بما فيها التجربة الناصرية في مصر، خاصة فيما مهد لوقوع هزيمة 1967 وما كشفت عنه من أوجه قصور في التجربة. إلا أن معرض القاهرة الدولي للكتاب يتجاوز بكثير في أهميته ودوره ودلالاته بالتأكيد العاملين المشار إليهما فيما سبق، حيث إنه ارتبط بكونه فعالية ثقافية ضخمة تتيح الفرصة للمثقفين بمختلف مشاربهم ومآربهم، ليس فقط في مصر بل بالدرجة الأولى في الوطن العربي، باعتبار الجميع ينتمي إلى ثقافة عربية عامة واحدة، ولكن أيضاً من مناطق أخرى مختلفة من أنحاء العالم، خاصة في أوروبا وآسيا، ولكن أيضاً من الأمريكيتين واستراليا ونيوزيلاندا، بهدف المشاركة والتحاور في الهموم التي تشغل بال المثقفين عبر الحدود. وجاء ذلك ليس من خلال عرض الكتب فقط، بل عبر كون المعرض يشهد عشرات، صارت فيما بعد مئات، الندوات وورش العمال التي تستضيف كتاباً ومفكرين وباحثين ومحللين، ولا تقتصر فقط على مناقشة الكتب المعروضة، بل تتخطى حدود ذلك لتناول موضوعات عامة حيوية وهامة ليس فقط للمثقفين بل للمواطنين العاديين. وأذكر أنني ضمن مشاركاتي العديدة كمتحدث في العديد من تلك الأنشطة التي تنظم في سياق المعرض، قد دعيت منذ أكثر من عقد من الزمان للتحدث في ندوة موسعة حول كيفية تعزيز العلاقات العربية الآسيوية، وكان هناك عدد هام من المتحدثين من كوكبة المثقفين المصريين والعرب بجانب سفراء عدد من الدول الآسيوية في القاهرة، كما شهدت الندوة حضوراً غفيراً، بل ومشاركة فعالة بالأسئلة والتعليقات، من قبل الجمهور العادي الزائر للمعرض، بالإضافة بالطبع لمشاركة ملفتة وتدخلات هامة من مفكرين وكتاب مصريين وعرب. كذلك ساهم معرض القاهرة الدولي للكتاب على مدار عقوده الخمسة بشكل مؤثر في تشجيع انبعاث جديد لحركة الترجمة ما بين اللغة العربية ولغات العالم الأخرى، وهو دور شبيه لما شهدته على مدار سنوات عشتها في العاصمة اليابانية طوكيو من دور قام به معرض طوكيو الدولي للكتاب في تشجيع حركة الترجمة بين اللغة اليابانية ولغات العالم الأخرى. فلا شك أن مصر شهدت موجات متتالية تاريخياً لحركات ترجمة واسعة ما بين اللغة العربية واللغات الأخرى، ولكن الموجة التي كانت قائمة تحت رعاية الدولة وبتمويلها في عقد الستينيات من القرن العشرين تعرضت لانتكاسة كبيرة بهزيمة يونيو 1967 وتحول جل موارد الدولة المصرية لإعادة بناء القوات المسلحة بغرض الأراضي التي احتلت عام 1967، مما عني تعثر المشروع الوطني للترجمة المدعوم بالكامل آنذاك من جانب الدولة. ومن الصحيح أن عملية الترجمة استمرت في عواصم عربية أخرى مثل بيروت والكويت كما في بعض بلدان المغرب العربي، إلا أن حجم وتنوع ما كان يتم ترجمته في القاهرة كان ضخماً وكان هناك حاجة على الصعيد العربي لإعادة الحياة لحركة الترجمة من مصر، وهو ما ساهم معرض القاهرة الدولي للكتاب في تحقيقه، ولو بشكل تدريجي، كما نجح في أن يتجاوز ذلك عيوب أن يكون مقصوراً على تمويل الدولة بحيث صارت هناك جهات خاصة عديدة معنية بالترجمة ونشر ما يترجم، حتى مع عودة دور الدولة في هذا الميدان، خاصة منذ نهاية الألفية الثانية. ويحسب بالتأكيد لمعرض القاهرة الدولي للكتاب أنه نجح بشكل سريع في التأقليم مع متغيرات صناعة النشر على المستوى العالمي من خلال التعلم والاستفادة من تجارب معارض كتب كبرى في العالم مثل معرض فرانكفورت وغيره، وفي طليعة المتغيرات النوعية التي كان ولا زال لها تأثيرها الكبير على صناعة النشر الثورة الرقمية والانتشار الواسع والسريع للكتب والمطبوعات الالكترونية بالإضافة لما وفرته الثورة المستمرة في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات من فرص بديلة للنشر ومن اطلاع واسع على ما ينشر على غير الطرق التقليدية للنشر، وإن كان البعض من المثقفين انتقد المعرض في إتاحته مساحات للعرض لشركات منتجة لتكنولوجيا تلك الوسائل البديلة للنشر، فإنني، وعلى العكس، أرى أن هذا مما يحسب لمعرض القاهرة الدولي للكتاب وليس عليه. وفي السياق نفسه، توسع المعرض أيضاً في كتب الأطفال، بصورها المطبوعة أو الإلكترونية، وهو ما يتماشي ايضاً مع التوجه العالمي المتزيد في هذا المجال. ولا يمكن الحديث عن معرض القاهرة الدولي للكتاب بمعزل عن الحديث عن الجهة القائمة على تنظيمه، وهي الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتي تكرس جزءًا هاماً من طاقاتها وقدراتها وجهد العاملين بها على مدار العام بأكمله لضمان الإعداد الجيد للمعرض وخروجه، قدر الإمكان والظروف والموارد المتاحة، في أفضل صورة ممكنة، ثم لتقييم الدورة بعد انتهائها واستقاء الدروس المستفادة منها لضمان إخراج الدورة التالية للمعرض في شكل أفضل وأكمل. ولا جدال في أن أمام معرض القاهرة الدولي للكتاب الكثير من المجالات لإدخال المزيد من التحسين والتطوير ومواكبة آخر ما هو موجود في العالم من ملامح لمعارض الكتب العالمية الكبرى الأخرى، وهذا هو أمر طبيعي ومن سنن الحياة، كما أنه أحياناً ما شهد المعرض مساجلات اتسمت بالحدة في بعض الحالات بين مثقفين وبين صناع قرار أو في داخل صفوف المثقفين، حول قضية أو أخرى مما هو مطروح على الساحة الوطنية المصرية أو القومية العربية أو العالمية الإنسانية، ولكن الصحيح أن هذه المساجلات تبقى دليلاً حياً على أهمية المعرض وحيويته ونبضه المستمر بالحياة وعلاقته الحميمية بما يحدث على أرض الواقع وليس انعزاله في برج عاجي منفصل للكتاب والمثقفين. وهكذا يبقى معرض القاهرة الدولي للكتاب حدثاً سنوياً هاما مصرياً وعربياً وأفريقياً ومتوسطياً ويستمر في كونه يمثل ساحة لقاء وتحاور للمثقفين المصريين والعرب والعالميين ونقطة إشعاع للمترددين عليه من الأفراد العاديين وأسرهم ومناسبة ينتظرها الكثيرون من العام للعام التالي في شغف وبنهم شديد متطلعين للجديد والمزيد، والمأمول أن يبقى المعرض كذلك، بل ويتطور أكثر ليجذب قاعدة أوسع من الزوار وليواكب أحدث ما في صناعة النشر العالمية وليواصل دعم مسيرة تقدم الفكر العربي والثقافة العربية. * مفكر وكاتب مصري

مشاركة :