برلين – بعد أن شاركت المخرجة الدنماركية لون شيرفيغ مرات عدة في مسابقة مهرجان برلين من قبل، كانت آخرها عام 2009 بفيلم “تعليم” من بطولة كاري موليغان الذي مضى لحصد عدد من ترشيحات الأوسكار بعد عرضه في برلين “البرليناله”، تعود شيرفيغ مجددا بفيلمها “تعاطف الغرباء”The Kindness of Strangers الذي افتتح الدورة الـ69 من المهرجان. إنتاج مشترك الفيلم من الإنتاج المشترك بين الدنمارك وكندا والسويد وفرنسا وألمانيا، أي أنه نموذج للتعاون السينمائي الأوروبي، ولكنه مصمم على غرار الأفلام الأميركية التي تروي قصة إنسانية يتقاطع في ثناياها عدد من الشخصيات التي تشترك في المعاناة بأشكال مختلفة، في سياق إنساني ومن أجل توصيل رسالة مفادها أنه من الممكن التغلب على الصعاب إذا تعاطف “الغرباء” مع بعضهم البعض في مجتمع نيويورك الشاق الذي لا يرحم أحدا! هذا النوع من الأفلام يطلقون عليه في اللغة الإنكليزية feel good movies، أي الأفلام التي تجعل المشاهدين يخرجون وهم يشعرون بالسعادة والارتياح بعد أن تم توفيق الحلول لجميع المشاكل، وانتهت كل الصراعات بحلول موفقة بقوة الحب وتحققت بالتالي النهاية السعيدة، ومن هناك يذهب الجميع سعداء إلى بيوتهم وهم يتطلعون في أمل، إلى لقاء أشخاص مُشابهين لابد أن “نيويورك” أو غيرها من المدن “المتوحشة” تزخر بهم، لكننا لا نراهم لأننا لا نريد أن نرى الوجه الجميل الذي يكمن وراء القبح والاستغلال والآلة الرأسمالية الجهنمية الهائلة التي تطحن الجميع!ويراهن الفيلم الناطق باللغة الإنكليزية على السوق الأميركية، وهي السوق الأكبر في العالم، وتدور أحداث قصته في نيويورك (رغم أن الفيلم صوّر في نيويورك وكوبنهاغن وتورونتو)، ولكن هناك مطعما روسيا في المدينة هو محور الأحداث، إن جاز القول إن هناك أحداثا في هذا الفيلم تعاني بوضوح من غياب “الحبكة” الدرامية، ويكتفي السيناريو بعرض الشخصيات وأزمتها من دون صراع حقيقي في ما بينها. المطعم الروسي يمتلكه “تيموفي” الذي ورثه عن أبيه المهاجر الأصلي، ولكنه لا يمتلك القدرة على إدارته، بل ولا يزال ينطق الإنكليزية بلكنة روسية، يتحرك حركات عصبية مضحكة، ويتخذ لنفسه مكانا بجوار باب المطعم ليكون في استقبال الزبائن، يستضيف بين آونة وأخرى، فرقة موسيقية روسية تغني الأغاني الروسية القديمة. وفي الفيلم الكثير من الثرثرة حول الطعام الروسي والغناء الروسي واللهجة الروسية والكافيار والفودكا، وغير ذلك. أما المدير الحقيقي للمطعم فهو “مارك” (يقوم بالدور الممثل الجزائري الأصل طاهر رحيم) الذي كان في السابق قد انحرف عن جادة الطريق وانحرف في طريق الجريمة وقضى فترة في السجن، لكنه تاب وأناب واستقر حاليا وحقق نجاحا في إدارة المطعم، وأصبح لديه أيضا شقة جميلة تتسم بالذوق السليم. لكن الفيلم يبدأ ويستمر لفترة طويلة مع “كلارا” (تقوم بدورها زو كازان حفيدة المخرج الأرميني الأصل إيليا كازان).. وهي زوجة شابة فرت بولديها من زوجها ضابط الشرطة الغليظ العنيف “ريتشارد” وذهبت إلى نيويورك حيث تهيم على وجهها مع طفليها الجائعين، تبحث عن مأوى وتحتال بشتى الطرق لتسرق الطعام والملابس، وعندما تلجأ لوالد زوجها، أي جد طفليها لكي يوفر لها المأوى مؤقتا، يرفض كما يرفض إعانتها ببعض المال، فتلجأ تارة إلى قضاء الليل في السيارة، وتارة أخرى في ملاجئ المشردين. هذا الوصف للحالة النفسية والحياتية البائسة لكلارا وولديها، يستغرق زمنا طويلا على الشاشة، ويسقط الفيلم في التكرار والإعادة والاستطراد في تصوير معاناة تلك الأسرة الصغيرة من موقف إلى آخر، وهو ما يصل أحيانا إلى ذروة الميلودراما التي يقصد منها استدرار الدموع، بل ويبدو الفيلم في هذا الجزء كما لو كان ينتمي إلى سينما الماضي، أي إلى تلك الأفلام التقليدية القديمة التي كانت تصوّر قسوة الحياة في مجتمع نيويورك ذي الإيقاع السريع والتفاوت الطبقي الذي يسحق الفقراء، وكيف يضطر الفقراء والمهمشون خاصة القادمين من خارج المدينة، أي من “الغرباء” عنها، للأكل من القمامة أو للسرقة وممارسة أشياء أخرى (يمكننا هنا مثلا تذكر فيلم “راعي بقر منتصف الليل” Midnight Cowboy لجون شليزنغر، بطولة جون فويت وداستين هوفمان، من عام 1969 ولكنه كان أفضل وأعمق وأكثر أصالة كثيرا من فيلمنا هذا). ويعاني “تعاطف الغرباء” أيضا من وجود الكثير من المصادفات واللقاءات المفتعلة التي تجمع بين (الغرباء)، أي الذين ينتمون -غالبا- إلى خلفيات عرقية وثقافية مختلفة وإن كان الفيلم لا يسلط الضوء عليها كما كان ينبغي.
مشاركة :