كان ذلك يومه الأول في المدرسة الإعدادية. أوصَلتُه أمُّه إلى بابها، وأوصَتهُ بحُسن الخلق مع الجميع، مُدرسين وطلبة. وعى كلامها جيدا، فظل طوال اليوم لا يُحدِث أيَّ نوع من الشغب. اصطفَّ في طابور الصباح، وعيناه تبحثان عن أصدقائه، أو زملاء الدراسة. وقفز قلبه فرحًا حين وجد عددًا منهم يبادله الابتسام. لكنَّ سعادته لم تدُم طويلا، إذ لم يجد أحدًا منهم في صفِّه. غير أنَّ زميله الجالس إلى جانبه، مدَّ يده بالسلام، فصافحه، سعيدا بالتعرُّف إليه، فبعث في نفسه الأمل في أصدقاء جدد. كان مُتعلِّقا باللغة العربية، بقراءة القصص وقصائد الشعر. وكان من أكثر التلاميذ تميُّزا في الحفظ والإلقاء. لذلك بدت له الحِصة الأولى، حصَّة اللغة العربية، نعمة من السماء وخصوصا بعد أن دخل المدرس، فتبين فيه أحد أبناء قريته، بل كان من علَّمه كيفية الصلاة. وقد خصَّه بابتسامة، فهم منها أنَّه يريده متفوِّقا كما هو شأنه هناك. ولم يخيِّب ظَنّه فيه، فراح يسبق التلاميذ في الإجابة على أسئلته بثقة واعتزاز، دفعت المدرس إلى مخاطبة التلاميذ: - صفّقوا جميعا لعلي. وصفّقوا، وانتشى طربا. ثمَّ جاء وقت الفسحة، فاصطفَّ في الطابور أمام نافذة المقصف. ودفع الثمن واستلم الشطيرة وعصير البرتقال، وجلس يتناولهما بهدوء. وفجأة أقبلت الكرة من بعيد، فصدمته، ودلقت العصير على ثيابه. وأقبل مَن ركلها يركض، معتذرًا، خشية عقاب المدرسين. لكنه لم يستطع كبح غضبه فصاح فيه: - ركلت الكرة عامدًا. - لم أقصد ذلك. - رأيتك تتحدَّث مع صديقك، وتشير إليَّ. - لم أتحدَّث مع أحد. وهمّا أن يمسكا ببعضهما، لولا أن أقبل المدرس المسؤول عن المراقبة، فصاح غاضبا: - أنت ولد شقي؛ لماذا ركلت الكرة باتجاهه؟ - لم أفعل يا أستاذ. - لا تكذب. أنت تعيد السنة، ورغم ذلك لا تزال سيئ الخلق. سأحدث المشرف بشأنك. ثمَّ التفت إليه وقال بلطف: - اذهب ونظف ثيابك. جرى إلى دورة المياه، سعيدا بوقوف المدرّس في صفّه. ثمَّ خرج، فاشترى علبة بسكويت راح يأكُلها بشهيّة. ومرَّت بقيّة الحِصص، حتى جَاءت حِصة الرياضة. وكان يشفق من جسمه الضعيف، وعدم قدرته على مجاراة الطلبة. لكنَّ الكرة ما إن لمست قدمه، حتى سرى منها تيَّارٌ، بثَّ فيه القوة، فراح يغافل هذا ويراوغ ذاك، واستطاع تسجيل أكثر من هدف. وترك ذلك في نفسه نشوة، استمرَّت معه لنهاية اليوم الدراسي. وحين استقرَّ على مقعده في سيارة والدته، قال لها: - كان يومي رائعًا. ثم راح يحكي لها ما أحرزه من نجاح، وحققه من رضا المدرّسين. تمت
مشاركة :