مؤتمر «الأخوة الإنسانية» ومواجهة المتطرفين

  • 2/10/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

خلال الأسبوع الماضي، ألقيتُ إحدى الكلمات الافتتاحية في مؤتمر بالعاصمة الإماراتية أبوظبي مخصص لبناء تفاهمات وإقامة علاقات واحترام متبادل بين القادة الدينيين في العالم. وتزامن المؤتمر مع الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وتوقيعه مع شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب وثيقة التزام منهما بالعمل من أجل تعزيز «الأخوة الإنسانية». وقد سرّني أن أكون هناك، وأن أحظى بفرصة المشاركة في تلك الفاعليات، لأنني لو كنت قد اعتمدت على صحف أميركية في تغطية الحدث لما فهمت أهمية ما جرى خلال الأيام الثلاثة التاريخية. جاء البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، إلى الدولة الإماراتية المسلمة في شبه الجزيرة العربية، وأقام قداساً في استاد رياضي حضره زهاء 180 ألف شخص. وقد كان هذا القداس التاريخي أكبر وأهم من أن تتجاهله بعض وسائل الإعلام الأميركية. وإذا أردنا أن نعرف مدى أهمية الحدث، فقط علينا أن نسأل قرابة مليون كاثوليكي يعيشون في الإمارات. فبالنسبة لهم، لم يقتصر الأمر على رؤية محبوبهم البابا فرنسيس، وإنما كان تأكيداً على أبلغ رسالة يمكن توجيهها بأن حريتهم الدينية مكفولة في دولة الإمارات. ولعلّ أكثر ما أثّر في قلوبهم حقيقة أن وزراء في الحكومة الإماراتية حضروا القداس كإيماءة تضامن. ولم تكن هذه هي أولى دلالات تُظهرها الإمارات تجاه الجالية المسيحية. ففي منتصف ستينيات القرن الماضي، بنى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أول كنيسة للمقيمين الكاثوليك الذين يعيشون في أبوظبي. وتوجد في الوقت الراهن 40 كنيسة (وإضافة إلى الكاثوليك هناك البروتستانت والأرثوذكس والإنجيليون). ودأب مسؤولون في الحكومة الإماراتية على تقديم التهنئة في احتفالات أعياد الميلاد والمناسبات المختلفة. وفي هذه الأثناء، جاءت زيارة البابا فرنسيس بمثابة رسالة طمأنة عميقة للجالية المسيحية. وفي اليوم السابق للقداس في استاد مدينة زايد الرياضية، وقّع البابا فرنسيس وشيخ الأزهر «إعلان أبوظبي» المعنون: «وثيقة الأخوة الإنسانية». وفي تلك الوثيقة، دعا رجلا الدين أتباع الدينين إلى «وقف استخدام الدين في التحريض على الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، والتوقف عن استخدام اسم الله في تبرير أعمال القتل والنفي والإرهاب والقمع». وفي بيانه قبل توقيع الإعلان، حضّ الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب دول المنطقة على «مواصلة قبول الإخوة من الطوائف المسيحية في كل مكان، باعتبارهم شركاءنا في الوطن». وأضاف: «ينبغي ألا يُنظر إلى المسيحيين باعتبارهم (أقليات)، لكنهم مواطنون متساوون». وفي تصريحاته، لم يتحدث فقط البابا فرنسيس عن مآسي الحروب، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، لكنه أيضاً كرّر دعوة الإمام الأكبر إلى «منح أصحاب العقائد المختلفة حقوق المواطنة ذاتها في المجتمعات التي يعيشون فيها». ويشدد الإعلان على هذه النقطة مؤكداً «إن مفهوم المواطنة يقوم على المساواة في الواجبات والحقوق التي ينعم في ظلالها الجميع بالعدل، لذا يجب العمل على ترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة في مجتمعاتنا، والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح (الأقليات) الذي يحمل في طياته الإحساس بالعزلة». ولا شك في أن لقاء هذين الرمزين الكبيرين والتزامهما بالعمل على تعزيز الحرية الدينية والاحترام المتبادل والاحتواء الكامل لأصحاب الديانات كافة باعتبارهم مواطنين متساويين في دولهم، يمكن أن يكون له تأثير كبير، بيد أن «ذروة سنام» الحدث كان «مؤتمر الأخوة الإنسانية» الذي استمر يومين كاملين، وحضره 600 من القيادات الدينية المختلفة وأصحاب الرأي، واختُتم بلقاء مع بابا الكنيسة الكاثوليكية وشيخ الأزهر. وكان من بين الحضور مسيحيون، من الطوائف كافة، ومسلمون ويهود وهندوس وبوذيون وسيخ و«يانيين». وخلال السنوات الماضية، كان هناك عدد من جلسات حوار الأديان في الإمارات شملت الديانات الإبراهيمية الثلاث. غير أن المؤتمر الأخير كان أكثر شمولاً، وكانت رسالته أقوى في مضمونها. فقد تمحورت حول إيجاد القواسم المشتركة والاحترام الضروري لبناء أسرة إنسانية. وقد كانت الحقيقة الجوهرية لهذا المؤتمر تاريخية، خاصة في مواجهة العالم المضطرب بالتعصب والعنف الناجمين عن الكراهية، ولأنه مع تحويل بعض الجماعات الدين إلى أيديولوجية سياسية قاسية أو استخدام الدين كأداة للقمع أو الحرب، مثّل هذا المؤتمر تحدياً مباشراً للمتطرفين في كل مكان. وقد حضرت الفاعليات في أبوظبي، بإدراك واضح لحقيقة أنه قبل قرن مضى، كانت زيارة البابا والإعلان والمؤتمر، بغرضه المعلن، من الأمور غير المتصورة. وكانت لدى «بيير تيلار دي شاردان»، وهو من الفلاسفة المفضلين لي، طريقة بارزة في مشاهدة تكشّف التاريخ الإنساني وزيادة الوعي البشري. وبالنظر إلى الفوضى في عالم اليوم، كان «تيلاردي» سيحذرنا من اليأس. وليس ذلك لأن الأمور أفضل مما تبدو عليه، وإنما لأننا الآن أكثر وعياً وإدراكاً للمظالم والتعصب والعنف والألم الذي يسببه كل منّا للآخر. وفي الوقت ذاته، أدت زيادة الوعي في العالم إلى ظهور معرفة جديدة قادتنا إلى ابتكار وسائل للتغيير لم تكن موجودة من قبل لتعزيز حقوق الإنسان العالمية وتطوير الرعاية الصحية وحماية البيئة. وفي ضوء ذلك، أفكر في شراكة المغفور له الشيخ زايد مع جيمي كارتر لعلاج الأمراض في أفريقيا، أو في تعاون طالبة الثانوية لمياء مقار، التي تعيش في الإمارات، مع صديقاتها من أجل جمع أموال ضرورية لبناء مدرسة في هاييتي. فحتى تصور أمور كهذه كانت مستحيلة قبل قرن مضى. وبالطبع، لا يمكن أن تتمخض زيارة واحدة وإعلان واحد ومؤتمر واحد عن التغيير المنشود. لكنها أمور تخدم الاستمرار في زيادة وعينا وبناء علاقاتنا التي نحتاجها من أجل إرساء قيم الأخوة الإنسانية التي تصورها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر في بيانهما المشترك.

مشاركة :