لا يمثل الجيش الألماني استثناء في هذا البلد، فهو عبارة عن صورة مصغرة أو انعكاس لكل الأفكار والتجاذبات الممزقة للمجتمع الألماني الذي يتقاسمه التطرف المزدوج: أحدهما بفكر إسلامي متشدد والآخر بطبيعة يمينية غربية متطرفة. في الحقيقة إن هذه الانقسامات الفكرية أوجدها سياق عالمي لعب فيه الصراع بين الثقافات والحضارات دورا بارزا. هذا واقع لا مفر منه كان مدفوعا بالأساس بمختلف التطورات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة. هذه السياقات الدولية برزت بدءا بتزايد منسوب العنف والهجمات التي نفذها الإسلاميون المتشددون ضد الغرب، سواء كانوا أشخاصا أو مؤسسات، ومرورا بتنامي موجات الهجرة بسبب النزاعات التي تمزق عددا من مناطق العالم لاسيما الشرق الأوسط وصولا إلى نشاط التيارات اليمينية المتطرفة في الغرب والتي يغذيها بشكل أساسي عنف الجهاديين وملف الهجرة، ليوقظ كلاهما المارد من قمقمه. مثل عناصر الجيش الألماني، وفي جزء كبير منه، مرآة عكست الأفكار المتطرفة من الجانبين التي تغلغلت داخل المجتمع الألماني حيث أفادت بيانات توفرت لدى الاستخبارات العسكرية ونقلها تقرير نشرته مجموعة “فونكه” الإعلامية بأنه في العام الماضي تم التفطن إلى سبعة متطرفين في صفوف الجيش، كان منهم أربعة متطرفون يمينيون وثلاثة آخرون إسلاميون. هؤلاء تم تأديبهم بالإجراءات اللازمة وفق القانون وغالبيتهم غادروا الجيش. خبر وجود متطرفين داخل الجيش الألماني الذي كشفت عنه صحيفة محلية تلقفته البعض من وسائل الإعلام من خلال استحضار المعايير المزدوجة في معالجة الأحداث والمعطيات وذلك بالتركيز على المتطرفين الإسلاميين في الجيش وإهمال العناصر التي لا تقل أهمية عن هؤلاء وهم المتطرفون اليمينيون. فألمانيا وكالعديد من البلدان الأوروبية لم تكتسب بعد مناعة قوية ضد العنف الذي يرتكبه أنصار التيارات اليمينية المتطرفة تجاه المهاجرين المسلمين أساسا واللاجئين لاسيما القادمين من العراق وسوريا بشكل خاص. ازدواجية معايير البعض بدت واضحة من خلال التركيز على المتطرفين الإسلاميين وهو ما كشفت عنه الدعوات المنتقدة لتأخر توظيف الجيش الألماني للأئمة المسلمين والاعتماد عليهم لتقديم خطب ومواعظ ودروس دينية للمجندين من المعتنقين للدين الإسلامي في خطوة تهدف إلى تحصينهم من استقطاب الجماعات الجهادية والانسياق نحو الفكر المتطرف.الاستخبارات العسكرية التي تعد أصغر جهاز استخباراتي في ألمانيا، أوكلت لها مهام داخلية من بينها منع التخريب داخل الجيش والبحث عن التوجهات والأنشطة المتطرفة بين جنود الجيش ومنع التجسس. كشفت إحصائيات هذا الجهاز عن ارتفاع حالات الاشتباه في ما يتعلق بالتطرف الإسلامي، والتي بلغت 50 حالة في العام الماضي مقابل 46 حالة في العام السابق. وجدت الدعوات إلى الاعتماد على الأئمة داخل الجيش الألماني مبرراتها في أن عددا هاما من المجندين مسلمون. هذا الطرح يجد أيضا نوعا من المشروعية بالنظر إلى طريقة تفكير الألمان أنفسهم، حيث بين استطلاع للرأي أجراه معهد “يوجوف” لقياس مؤشرات الرأي الشهر الماضي أن 48 بالمئة من الألمان يعتبرون أن خطر التعرض لهجمات من داعش في أوروبا لا يزال قائما، في المقابل يرى 29 بالمئة من المستجوبين أنه صار مرتفعا. وإلى جانب هذا التفكير هناك معطيات أخرى تفرض نفسها بقوة حول معالجة موضوع خطر التشدد الإسلامي في ألمانيا، وهو مرتبط بالأساس بالقضايا المتصلة بذلك التي نظر فيها الادعاء الاتحادي الألماني والتي بلغ عددها في العام 2017 وفق البيانات الرسمية 1031 قضية مرتبطة بإرهاب المتطرفين الإسلاميين من بين 1210 قضايا جديدة فتحها الادعاء الاتحادي في ذلك العام. لكن كل هذه المعطيات لا تلغي فكرة أنه تم التعامل بمعايير ازدواجية مع تطرف مزدوج، فماذا يعني أن يثار موضوع توظيف الجيش للأئمة في حين أن تطرف الإسلاميين جزء من المشكلة وليس كل المشكلة. البعض من وسائل الإعلام تغافل عن أن مشكلة وجود متطرفين داخل الجيش، التي لا تحل فقط باعتماد الجيش على الأئمة لأنه يحتاج كذلك إلى أخصائيين في علم النفس وفي علم الاجتماع وغيرهما من الاختصاصات ومجالات البحث العلمية القادرة على اقتلاع الأفكار اليمينية المتطرفة والتأثر بالحركات اليمينية وكره الآخر المختلف إلى جانب التخلص من عقدة الفوقية وتفوق البيض وسياداتهم وكل الأفكار والممارسات العنصرية التي تفرزها هذه العقيدة. هذا الواقع، لا يمكن إنكاره بأي شكل من الأشكال فيكفي النظر إلى مختلف الاعتداءات شبه اليومية على اللاجئين والمهاجرين المسلمين في ألمانيا. الجيش بدوره كان جزءا من المؤسسات التي عصفت بها رياح التطرف اليميني، فوفق إحصائيات الاستخبارات العسكرية تم الكشف خلال العام الماضي عن 270 مجندا اشتبه بهم في مجال التطرف اليميني. ورغم أن عدد الحالات المشتبه بهم في هذا الشأن قد انخفض مقارنة بالعام السابق الذي تم خلاله رصد 379 حالة، تبقى مخاطر التطرف اليميني داخل الجيش مرتفعة. فقد ارتفعت حالات الاشتباه في وجود عناصر من الجيش يبغضون الأجانب، حيث وصل العدد إلى 35 حالة في العام الماضي بعد أن كانت قبل عام في حدود 22 حالة اشتباه. تنظر الأوساط السياسية إلى عناصر الجيش الذين يتبنون الأفكار اليمينية المتطرفة على أساس أنهم “قنابل موقوتة” مما يفرض سرعة التعامل مع هذا الأمر على كل المستويات. ازدواجية معايير البعض بدت واضحة من خلال التركيز على المتطرفين الإسلاميين مقابل إهمال حقيقة وجود عناصر في الجيش الألماني تتبنى الأفكار اليمينية المتطرفة اتخذ الجيش الألماني الإجراءات الضرورية لمواجهة هذا النوع من التطرف بمراقبة مواقف عناصر الجيش لرصد أي أفكار متطرفة كما تم الاعتماد على فريق مختص تم إدراجه ضمن جهاز الاستخبارات الداخلية منذ أغسطس العام 2017 لمتابعة مواقف وأفكار جنود الاحتياط. لجأ الجيش أيضا إلى قانون فحص مواقف الجنود بداية من يوليو 2017 وهو ما يسمح بالتحري عن الحياة الشخصية للمرشحين للخدمة العسكرية أو الجنود المحتملين وبالقيام بإجراءات مراجعة أمنية في هذا الشأن. وجاء اعتماد هذا القانون بموجب تعديلات قوانين التجنيد في البلاد التي أقرتها الحكومة في 2016 في سياق جهودها لمحاربة الاستقطاب من قبل الجماعات الجهادية بالإضافة إلى منع دخول وانتماء المتطرفين من اليمين واليسار إلى قوات الجيش. وورد في نص التعديلات على قانون التجنيد الألماني أنه “توجد أدلة حاليا على محاولة دوائر إسلامية بإلحاق ما يسمى بمجندين على المدى القصير بالجيش الألماني لتلقي تدريبات هناك”. منذ ذلك الوقت، أصبحت الاستخبارات العسكرية تتحرى في مدى مطابقة أفكار المرشحين للالتحاق بالجيش للقوانين الألمانية وأحكام الدستور في البلاد. وقبل إقرار هذه التعديلات كانت الإجراءات المخابراتية تشمل فقط فترة خدمة الجنود لاسيما ممّن يتولون مهام أمنية حساسة.
مشاركة :