وضعت القمة العالمية للحكومات جهودها كمنصة عالمية لتطوير العمل الحكومي، وذلك وفقاً لما حصدته من نتائج ومكتسبات خلال الدورات السبع الماضية، بما فيها الدورة التي اختتمت أعمالها أمس، وفقاً لما ذكره محمد القرقاوي وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء والمستقبل رئيس القمة العالمية للحكومات. وتطرق القرقاوي في حوار مع «الشرق الأوسط» إلى أن القمة تبحث حول أكثر الأسئلة الملحة في التحولات الكبرى التي سيشهدها العمل الحكومي، وكيف يمكن أن تسهم النقاشات في توضيح صورة المستقبل بما يتعلق بالحكومات، إضافة إلى طرحه عدداً من المواضيع والتجارب الحكومية التي شاركت في القمة: > ما المختلف في الدورة السابعة من القمة العالمية للحكومات؟ وما الذي تضيفه إلى منجزات الدورات السابقة من القمة؟ - تكرس القمة العالمية للحكومات، في دورتها السابعة، النهج الذي أسست له في الدورات الست السابقة، لجهة استشراف مستقبل العمل الحكومي، كما تواصل البناء على النتائج والمكتسبات التي تحقّقت خلال السنوات الماضية، إلى جانب مواصلة البحث عن أسئلة المستقبل الملحة، مثل: ما هي التحولات الكبرى التي سيشهدها العمل الحكومي في ضوء التغيرات الكبرى والمتسارعة التي تشهدها البشرية؟ وهل حكوماتنا مستعدة للتعامل مع القادم؟ ما هو شكل العمل مستقبلاً في شتى القطاعات؟ وما هي الوظائف التي ستختفي من «الكادر الوظيفي» في المؤسسات؟ وما هو شكل التعليم؟ وما هي المهارات والمواهب التي سنبحث عنها والتي ستسعى حكومات المستقبل إلى اقتناصها؟ وكيف سيتم تقديم الخدمات الطبية والصحية؟ وكيف ستدير الحكومات مدن المستقبل؟ وما الذي ينتظره مواطن المستقبل من حكومته؟ كل هذه التساؤلات الملحة وغيرها مطروحة على منصة القمة التي تعد أكبر مختبر عالمي لمناقشة التجارب العالمية في العمل الحكومي بمشاركة أكثر من 140 حكومة و30 منظمة أممية و600 متحدث بين رؤساء حكومات وخبراء ومفكرين وباحثين يشاركون في أكثر من 200 جلسة حوارية وتفاعلية، يبحثون من خلالها عن سبل الارتقاء بواقع البشرية وتحسين جودة الحياة، والعمل على خلق مجتمعات رفاه، وجسر الفجوة التنموية بين الشعوب بما يسهم في تحقيق الاستقرار والازدهار والسلم المجتمعي. وإذا كان من عنوان رئيسي لقمة العام فهو العودة إلى أساس العمل الحكومي، وهو الإنسان، فأجندة القمة تتبنى الإنسان كمحور أساسي للبرامج الحكومية بالمعنى التنموي والخدمي، بحيث تحرص القمة من خلال جلساتها ونقاشاتها ومنتدياتها إلى استشراف أهم القضايا والتحديات التي تواجه البشرية واستعراض أبرز الاتجاهات الحكومية والاستعداد لها، عملاً بمقولة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بأن «أفضل وسيلة لبناء المستقبل هي بسبر أغواره، واستكشاف فرصه والاستعداد لتحدياته». > كيف يمكن أن تساعد القمة العالمية للحكومات في إيجاد حراك لفهم الطبيعة الدولية للمتغيرات وكيفية التعامل معها؟ - يمكن القول إن القمة العالمية للحكومات هي أكبر تجمع من نوعه للخبرات في المنطقة والعالم، الذين يسعون إلى استشراف أدوات وآليات العمل الحكومي في المستقبل، وتحديد أبرز المتغيرات والاتجاهات العالمية في هذا المجال، بحيث يمكن الاستفادة مما يضعونه على طاولة القمة من تجارب ورؤى وقصص نجاح، تساهم جميعها في تحديد القضايا والمشاكل الملحة التي تواجه المجتمعات، ورصد معوّقات التنمية، وحصر أهم التحديات الراهنة والمستقبلية التي تواجه الدول والحكومات والإحاطة بالتطورات المتسارعة، ومواكبة أحدث التحولات والمستجدات خاصة في مجال التكنولوجيا ورسم الخطط والاستراتيجيات المستقبلية بناء على ذلك. > تتسارع المتغيرات العالمية، ومع التقنيات المستجدة أصبحت سمة «التغيير» مطلباً... إلى أي مدى تشكل التكنولوجيا عاملاً ملحاً وأساسياً في العمل الحكومي الجديد؟ - اليوم، لم تعد التطورات التقنية المتسارعة يُنظر إليها بمعزل عن آليات العمل الحكومي، بل إن التكنولوجيا باتت مقياساً للحكم على التجارب الحكومية المبتكرة ذات القابلية للتطور والتحديث المضطرد، الحريصة على تبني تقنيات المستقبل. علينا أن نفهم أن التكنولوجيا في حكومة المستقبل ليست عاملاً مساعداً أو تكميلياً بل أصبحت عاملاً رئيسياً، ومحركاً، ومسرعاً، ومحفزاً، ومطوّراً، وعنصراً متكاملاً مع عناصر البنية المؤسسية للحكومة، من القاعدة إلى القمة. إن حكومة المستقبل، التي دخلنا فصولها التمهيدية اليوم، هي حكومة مفاصلها الأتمتة والرقمنة والذكاء الصناعي. بل إن دول وجمهوريات المستقبل هي دول وجمهوريات رقمية بالكامل، وعلينا من الآن أن نستعد لهذا الفضاء التقني الواقعي جداً، والذي تسهم التكنولوجيا في تعزيزه، وهو فضاء مفتوح على كل أشكال الابتكار، الأمر الذي يتطلب من جانبنا قدرة هائلة على التكيف معه، وإتقان لغته وأدواته. > منذ الدورة الماضية ومع انطلاق الدورة الحالية شهد العالم الكثير من الأحداث، جزء كبير منها يتعلق بعدم رضا الشعوب عن الحكومات، «كيف يمكن أن تنجح الأمم شعار ملهم»، كيف يمكن تطبيقه في الواقع؟ - تنجح الأمم إذا تعاملت مع الإنسان بوصفه أساس التنمية وهدفها ونتيجتها، بحيث إن أي سياسات أو خطط أو برامج نضعها ونسعى إلى تنفيذها تبدأ من الإنسان وتنتهي به. تنجح الأمم من خلال إعادة تأهيل حكوماتها، بحيث تتمتع بمرونة أكبر وجاهزية أفضل وقدرة على استثمار أدوات المستقبل كما قال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. تنجح الأمم بإيمانها بشعوبها وتغليب مصلحة شعوبها فوق أي مصلحة أخرى والعمل من أجل تحقيق آمال شعوبها وتطلعاتهم وأحلامهم. تنجح الأمم بجعل رفاه مواطنيها مبدأ وعملاً. > تتبنى هذه الدورة من القمة العالمية للحكومات سبعة محاور مستقبلية؟ ما الذي يجمع هذه المحاور فيما بينها؟ ولماذا تم اختيارها دون غيرها؟ - جميع جلسات وملتقيات وحوارات المنتدى تندرج تحت سبعة اتجاهات استشرافية محورية، هي: التكنولوجيا وتأثيرها على حكومات المستقبل، ومنظومة التعليم وارتباط مخرجاته بسوق العمل ومهارات المستقبل، والصحة وجودة الحياة، والمنظومة البيئية والتغير المناخي وتداعياته، والتجارة والتعاون الدولي في أطر محددات وعلاقات وشراكات جديدة، والإعلام والاتصال بين الحكومات والشعوب، ومستقبل الأفراد والمجتمعات والسياسات. هذه المحاور أو الاتجاهات السبعة تشكل محركات العمل الحكومي، كما تشكل أساس بناء مجتمعات المستقبل وأساس استقرارها ونمائها. ومن المهم أن ندرك هنا أن هذه الاتجاهات المحورية تأتي كحزمة متكاملة، بحيث لا يمكن تجزئتها أو التعامل معها كوحدات منفصلة حيث ترفد أدواتها وآليات بعضها بعضا. ودور حكومات المستقبل هنا هو أن تكون بمنزلة الرابط بين هذه المحاور، الفاعل والداعم والممكِّن لها. > تستضيفون 3 دول لاستعراض تجربتها في تطوير الأداء الحكومي، علماً بأنه جرت العادة على استضافة دولة واحدة في الدورات السابقة؟ ولماذا تم اختيار هذه الدول الثلاث تحديداً؟ القمة العالمية للحكومات منصة منفتحة على كل التجارب الحكومية المتميزة في أي مكان في العالم. وبما أن القمة عبارة عن مختبر حيّ، فإن أي تجربة ناجحة تستحق تسليط الضوء عليها. بعد نجاح تجربة «الدولة الضيف» على مدى الدورات السابقة، أردنا أن نكرس هذا التقليد بحيث نحتفي بأكثر من دولة، كي نتمكن من تسليط الضوء على أكبر قدر ممكن من التجارب المتميزة. في هذه الدورة، أردنا أن نقارب ثلاث تجارب لافتة، لثلاث دول، ما يميزها أنها قد تبدو غير بارزة على الخريطة العالمية بمعنى النفوذ السياسي أو الاقتصادي العالمي، لكنها ثلاثتها حققت المعادلة الصعبة، من خلال التميز والريادة في العمل الحكومي. هذا العام، تستعرض منصة القمة تجارب كل من إستونيا ورواندا وكوستاريكا. إستونيا مثلاً، هذا البلد الصغير، الذي لا يزيد تعداد سكانه على 1.3 مليون نسمة، والذي يتمتع باقتصاد قوي، تُعدّ من أسرع اقتصادات أوروبا نمواً، حيث يتمتع سكانها بتعليم مجاني وبرعاية صحية عالمية. وهي من أكثر الدول المتقدمة رقمياً، واضعة لنفسها هدفاً يتمثل في بناء مجتمع رقمي بالكامل (إي - إستونيا)، وفي عام 2014، أصبحت أول دولة في العالم توفر «إقامة إلكترونية». ولا تقل تجربة راوندا أهمية، فهذا البلد الذي شهد واحدة من أشهر مجازر الإبادة في التاريخ في عام 1994، استطاع أن ينهض من وسط الركام، وأن يحقق قفزة اقتصادية تنموية هائلة، لتصبح تجربتها نموذجاً يصلح للمحاكاة في الكثير من الدول الأخرى الفقيرة أو التي تواجه تحديات تنموية جمة. اليوم، أصبحت رواندا قِبلة استثمارية، حيث لا يستغرق إنشاء شركة فيها أكثر من خمس ساعات. ليس هذا فحسب، بل تطور قطاع السياحة في البلاد بحيث بات يشكل المصدر الرئيس للعملة الأجنبية. وخلال أقل من عشر سنوات، ارتفع الناتج المحلي للاقتصاد الرواندي من 900 مليون دولار في العام إلى 9.5 مليارات دولار. حتماً، التجربة الرواندية تستحق أن نحتفي بها عبر منصة القمة العالمية للحكومات، وأن نعاين خصائصها وملامحها عن قرب، ونتعلم منها. وننتقل أخيراً إلى التجربة الكوستاريكية، فهذا البلد الكائن في أميركا الوسطى لطالما عانى من تدهور الوضع الاقتصادي قبل أن يتحول إلى نموذج للاستدامة، خاصة في مجال البيئة، إذ تطبق كوستاريكا سياسات بيئة تقدمية، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي تلتزم بالمعايير الخمسة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي التي تم وضعها لقياس وتقييم الاستدامة البيئة. كذلك، نالت المركز الأول في مؤشر ما يعرف بكوكب السعادة من قبل مؤسسة «نيو إكونوميكس فاونديشن» المعنية ببناء اقتصادات جديدة، وفي عام 2009، أصبحت كوستاريكا الدولة البيئية الأولى في العالم. وفي العام 2016، بات يتم توليد أكثر من 98 في المائة من الكهرباء لديها من مصادر «خضراء» أي صديقة للبيئة. > ما التحديات برأيك التي تواجه الحكومات لفهم طبيعة المستقبل؟ وهل الحكومات قادرة على مواجهة التحديات؟ وكيف يمكن للقمة العالمية أن توفر حلولاً أو مقترحات عملية في هذا الصدد؟ - التحديات بلا شك كثيرة، في مقدمتها مدى استعداد الحكومات وأهليّتها لمواكبة التطورات والمستجدات العالمية اقتصاديا واجتماعياً وسياسيا والأهم تكنولوجياً. يمكن القول إننا نعيش ونختبر كل يوم تغيراً وتبدلاً في أدوات وآليات منظومة العمل الحكومي، تتطلب خططا واستراتيجيات، مرحلية ومتبدِّلة باستمرار، ومهارات متقدمة، وإلغاء وظائف واستحداث أخرى وتأهيل طواقم عمل وإعادة تأهيل، وتدريب وتثقيف حكومي مستمرين. والحكومات المرنة، المنفتحة للتغيير، وذات السياسات الاستشرافية أقدر من غيرها بلا شك على التصدي للتحديات. على مدى سبع دورات، استطاعت القمة العالمية للحكومات أن تكون سباقة إلى رصد واستقراء واستشراف الكثير من التحديات والتغيرات في هذا المجال، ووضع تصورات واقتراح حلول مبتكرة، واستعراض تجارب عالمية ناجحة بحيث يمكن تعميم تجربتها أو إعادة «تفصيل» التجارب بما يناسب «مقاسات» حكومات أخرى حسب ظروفها ومعطياتها التنموية. منذ تاريخها وحتى اليوم، استضافت القمة العالمية أكثر من ألف جلسة نقاشية وحوارية وتحليلية وتفاعلية لرؤساء حكومات ومسؤولين وخبراء ورواد أعمال وأفكار بشأن كيفية تطوير عمل الحكومات والارتقاء بأداء المؤسسات في مختلف القطاعات من أجل ضمان مستقبل الأجيال القادمة. كما نشرت الكثير من التقارير والدراسات المرجعية التي توفر مقاربات نظرية وعملية في أحدث الاتجاهات في صياغة السياسات. وهذا العام، تصدر القمة أكثر من 20 تقريراً تغطي مختلف جوانب العمل الحكومي المستقبلي. > تشارك أسماء كبيرة من شركات القطاع الخاص، ما الذي يمكن أن تقدمه تلك الشركات والمؤسسات للحكومات؟ - بالتأكيد تلعب مؤسسات القطاع الخاص والشركات العالمية دوراً جوهرياً في المساهمة في بناء وتعزيز اقتصادات الدول والمجتمعات وفي إحداث تغيير نحو الأفضل، لجهة تمكين المجتمعات والتصدي لمشكلات الفقر أو التعليم أو المرض، إلى جانب الاستثمار الإنساني من خلال مشاريع تُقاس ربحيتها الحقيقية بحجم الأثر الإيجابي الذي تصنعه في الفئات المعنية. من واجب الحكومات أن تمد جسور تعاون مثمرة وبناءة مع الشركات الكبرى، ومع القطاع الخاص عموماً، بحيث يكون القطاع الخاص شريكاً وليس منافساً، من روافد الدفع الاقتصادي والتعزيز المجتمعي وليس كيانات ربحية بالمطلق، تترك بصمتها الإنسانية من خلال ممارسة المسؤولية المجتمعية على الوجه الأمثل. كذلك، في المرحلة المقبلة من العمل الحكومي المستقبلي سوف يكون للقطاع الخاص وللشركات الكبرى دور حيوي في التأثير على حياة الناس والمجتمعات، مع تنامي المؤشرات التي تشير إلى انسحاب الحكومات من العمل الحكومي، لتقود الشركات الكبرى التغيير وتنصع التأثير، وتحدث حراكاً في شتى المجالات، كالنقل والطب والفضاء والإعلام. وعليه، على الحكومات أن تمهد الطريق لهذه الشركات والكيانات التي تملك الموارد والبيانات كي تكون عنصراً معززاً للتنمية وقيمة مضافة تكمل العمل الحكومي ولا تتعارض عليه.
مشاركة :