والحسن يظهر حسنه الضد

  • 2/22/2015
  • 00:00
  • 21
  • 0
  • 0
news-picture

يوم تعاهدت الطوائف اللبنانية عام 1943 على تجربة خيار العيش المشترك في دولة مدنية ديمقراطية مستقلة.. لم تنطلق في وضع صيغة «الميثاق الوطني» للدولة المنشودة من إيجابيات تجربة تاريخية محلية، بل من سلبيتين خارجيتين استدعتا «تنازل» الطوائف الإسلامية عن حلم الوحدة العربية لقاء «تنازل» الطوائف المسيحية عن الانتداب الفرنسي. رحم الله رئيس تحرير صحيفة «لوريان»، جورج نقاش، الذي شكك آنذاك بوطنية الميثاق في افتتاحية شهيرة عنوانها «سلبيتان لا تصنعان وطنا». «تنازلات» عام 1943 الطائفية كانت ضرورية لاستنباط قاسم مشترك لتعايش اللبنانيين، وإنْ بحده الأدنى. ولكن صياغة هذه «التنازلات» على قاعدة المقايضة، حوّل «الميثاق الوطني» من وثيقة دستورية قابلة للاستمرار إلى صفقة مرحلية محكومة بالمعطيات الإقليمية والدولية التي كانت قائمة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك التاريخ مرّ لبنان، والشرق الأوسط، بتحولات سياسية وديموغرافية لم تكن في حسبان أولياء ميثاق عام 1943، بدءا بانقلاب قاعدتي السلطة في لبنان من أكثريتين إسلامية - مسيحية إلى أكثريتين سنية – شيعية، وانتهاء بتحول مرحلي في ميزان القوى في المنطقة لغير صالح النفوذ العربي وكأن المنطقة العربية ترتد اليوم إلى أوائل العصر العباسي، عصر انتشار التيار الشعوبي. وسط التحولات الدامية، والمأسوية، في المشرق العربي، قد تكون الإيجابية الوحيدة الممكن تسجيلها للبنان أنه لا يزال الدولة الأكثر استقرارا في المنطقة. إلا أن فضل لبنان في هذا الاستقرار الهش يكاد لا يقاس «بفضل» المعطيات الدولية والإقليمية التي ترجح خيار حياده عن عين العاصفة. ولكن المعطيات الدولية للمرحلة الراهنة مرشحة للتبدل على ضوء أكثر من استحقاق إقليمي منتظر: المحادثات النووية الأميركية الإيرانية في فيينا، ونتائج الانتخابات النيابية الإسرائيلية، ومشروع واشنطن – الطويل الأمد كما يبدو - لتدريب مقاتلي «المعارضة المعتدلة» في سوريا. وأخيرا لا آخرا، ما قد يستتبعه تشكيل «جيش معتدل» من عودة تركيا إلى لعب دور مؤثر على ساحة النزاع السوري. لا جدال في أن هذه الاستحقاقات كافية، بحد ذاتها، ليتحسب القياديون اللبنانيون، من الآن، من انعكاساتها المتوقعة، إن لم تكن الحتمية، على الساحة اللبنانية. من هنا ضرورة إدخال نقلة نوعية، وجذرية، على حوار «تنفيس الاحتقان» - الذي يرتفع مستواه بين تيار المستقبل و«حزب الله» على وقع معارك المعارضة والنظام في سوريا - بحيث يتحوّل من مجرد حوار مذهبي بين شريحتين طائفيتين إلى حوار وطني يشمل كل الطوائف والأحزاب اللبنانية، ويصح أن يؤسس، لاحقا، لـ«ميثاق وطني» حقيقي. في هذا السياق، تمثل «سلبيات» أوضاع دول الجوار عِبرا تاريخية تصعب الاستهانة بها في صياغة نظام لبنان الغد: فلا الأوتوقراطية العسكرية (كما في سوريا) قادرة على الاستمرار، ولا الديكتاتورية التكفيرية (كما في دولة «داعش») قابلة للحياة، ولا نظام تسلط الطائفة الواحدة على الآخرين (كما في عراق نوري المالكي) قادر على الصمود حتى بالقوة. في هذا المفصل التاريخي من مسيرة دول المشرق العربي، وعلى قاعدة «الحسن يظهر حسنه الضد»، هناك أكثر من حافز سياسي يحث القيادات اللبنانية الحكيمة على التمسك «بالإيجابيات» المبدئية، والمهملة، للحالة اللبنانية وتفعيلها بحيث تصبح عماد دولة ديمقراطية عصرية، وفي مقدمتها النظام الانتخابي البرلماني، واحترام حرية الفكر والمعتقد والمحافظة على التعددية الاجتماعية. حوار «تنفيس الاحتقان»، الذي خدم «عسكريته» وأفرغ كل ما في جعبته، لا يخرج عن كونه هدنة مؤقتة في الصراع الطائفي على السلطة في لبنان. والاستمرار به في هذا الإطار مجرد محاولة ظرفية لشراء الوقت بانتظار أن تحدد المواجهات السياسية والمذهبية في سوريا والعراق صورة لبنان الغد. ولكن لبنان الغد يبدأ باتفاق القيادات اللبنانية الحكيمة على تجنب تجارب دول الجوار – إن لم يكن تجنب أخطائها - واستحداث ميثاق وطني جديد يكون أول أهدافه النأي بالنظام اللبناني عن أنظمة جواره الفاشلة بحيث يستحق لبنان، من جديد، لقب «سويسرا الشرق».

مشاركة :