هل يمكن النظر إلى قمة واشنطن في 18 الجاري؛ وهدفها المعلن مكافحة الإرهاب حول العالم، باعتبارها الذريعة الجديدة التي ستنطلق أميركا من ورائها لاستكمال سلسلة حروبها عالمياً وشرق أوسطياً، في مرحلة تالية لما سبق أن رأيناه بين عامي 2001 و2003، بدءاً من أفغانستان وصولاً إلى العراق تحت مبرر مشابه، كانت أحداث نيويورك وواشنطن في 11 أيلول (سبتمبر) قاعدته الفكرية وانطلاقته العسكرية؟ يمكن أن يكون الأمر كذلك بالفعل، بمعنى أن قمة واشنطن النواة الأولى لمرحلة من الجولات العسكرية الأميركية التي ستكون المنطقة العربية مسرحها الأليم. هل ما نقول به تخمين أم قراءة مبنية على مرئيات تكاد تكون ملموسة؟ من شجرة التين يتعلم المرء المثل، فمتى لانت أغصانها، واخضرت أوراقها يعرف الناظر أن الصيف قريب، وعندما يتحدث عضوان بارزان في الكونغرس عن المطالبة بالحضور العسكري الأميركي على الأرض في الشرق الأوسط، يدرك المحلل المحقق والمدقق أن الحرب بدورها قريبة. قبل أيام كان رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ السيناتور الجمهوري جون ماكين والديموقراطي ديان فينستين يطالبان بإرسال قوات أميركية «على الأرض» إلى الشرق الأوسط، وفرض خطر جوي على سورية، وتعزيز وجود الحضور الأميركي، لا سيما في اليمن، وهذا كله من أجل الدفاع عن المصالح الأميركية في المنطقة الملتهبة. هل يعني ذلك أن «عديد» القوات الأميركية لا بد أن يعود في شكل جيوش جرارة كاسحة كما جرى في العراق؟ يبدو أن الأميركيين تعلموا الدرس جيداً هذه المرة، لا سيما في ظل حروب الطائرات من دون طيار «الدرونز»، التي باتت تلعب دوراً فاعلاً، وبالاستعانة بقوات عمليات خاصة، مزودة أحدث الأسلحة، وعبر تحسين طرق جمع المعلومات والتحكم في ميادين القتال بمنظومة اتصالات الأقمار الاصطناعية. بمعنى معارك القرن الحادي والعشرين: رجال أقل وتكنولوجيا عسكرية أشد ضراوة. لكن كيف لسيناريو هذه الحروب أن يجد طريقه على أرض الواقع بالفعل؟ البداية قطعاً قمة واشنطن، التي عمادها تحالف «العيون الخمس» الذي تحدثت عنه مجلة «دير شبيغل» الألمانية، والبداية مع بلورة منظومة أمنية استخبارية عالمية، عنوانها الظاهر، مجابهة الحركات الأصولية الإسلامية السياسية في الشرق الأوسط من جهة، ومكافحة الحركات الإرهابية القائمة بالفعل عسكرياً مثل «داعش» والقاعدة، اللتين تمددتا عربياً وإقليمياً ويخشى من اتساع رقعة انتشارهما عالمياً، في شكل بات يهدد لا مصالح واشنطن فقط، بل أمن دولة إسرائيل، عطفاً على مواجهة الانفلات في اليمن من «الحوثيين» الذين يرفعون شعار «الموت لأميركا ولإسرائيل». هل ستعمد قمة 18 شباط في واشنطن إلى تغيير «تكتيكات الحرب على الإرهاب» سياسياً هذه المرة؟ هناك من يروج في الداخل الأميركي أخيراً للأخطار التي يمكن أن يتعرض لها الغرب بعامة وأميركا بخاصة، من احتمال حصول أي من المنظمات الإرهابية وفي مقدمها «داعش» على سلاح نووي، وهذا أمر من شأنه دفع المواطن الأميركي لتغيير موقفه الرافض المشاركة في حروب أميركية جديدة خارج البلاد. هنا أيضاً يتم التلاعب بورقة الملف الإيراني النووي، والتحذير من فكرة إيران نووية، وهذا ما لمح إليه الرئيس أوباما في خطاب حالة الاتحاد الأخير، عندما تحدث عن الأوراق المطروحة بالنسبة للحل مع إيران، على رغم حرصه على المسارات التفاوضية وتحذيره الجمهوريين من استصدار قوانين جديدة بعقوبات على طهران. هل حروب أميركا هذه المرة أندفاع أهوج غير مخطط له بمعزل عن حلفائها الأوروبيين؟ الشاهد أن واشنطن أجادت العزف من أجل تقسيم العالم إلى فسطاطين، واحد للحرب وآخر للسلام، كما قال جورج فريدمان، رجل الاستخبارات الأميركية العتيد، ومؤسس «ستراتفور» التي تعد استخبارات الظل، للاستخبارات المركزية الأميركية. هذه المرة لن تمضي واشنطن بمفردها، بل ستجد غالبية أن لم يكن كل دول أوروبا في صفها، وقد أثرت عملية «شارلي أبيدو» في المزاج الأوروبي، الذي بدأ مفتقداً الأمن، بما يعني أن المشهد قد تغير عن آذار (مارس) 2003 وغزو العراق، ذاك الذي رفضت المشاركة فيه فرنسا وألمانيا. وربما لن يقتصر المشهد على الأوروبيين، بل سيمتد الى الآسيويين، فاليابان الحليف التقليدي لواشنطن، وأحد أضلاع مثلث الرأسمالية، مفجوعة من داعش خصيصاً بعد ذبح اثنين من مواطنيها، وروسيا الاتحادية تفضل مواجهة الإسلامويين في الشرق الأوسط وعلى أرض العرب، عوض نقل ميدان المعركة إلى الجمهوريات الإسلامية «السوفياتية سابقاً»، ولديها في الشيشان ما يكفي، كما أن الصينين قد رأوا بأعينهم انضمام عناصر من الأيغور الانفصاليين إلى تنظيم الدولة الإسلامية.... ماذا يرتب ذلك؟ قطعاً سيسهل من مهمة المؤتمرين في قمة واشنطن لمكافحة الإرهاب، وتواصلها مع الأمم المتحدة واستصدار قرارات من مجلس الأمن، تعطي رخصة شرعية للحروب المقبلة، لقطع الطريق على الخطر الداهم. هل بدأت فصول الحروب الجديدة مسيرتها؟ أغلب الظن أنها بدأت، إذ تحركت من جديد أعمال التحالف الاستراتيجي الاستخباري القديم بين واشنطن ولندن، والذي كشفت أبعاده من خلال الوثائق التي أصدرتها دائرة المحفوظات الوطنية في بريطانيا. وتحمل الوثائق قراءات مثيرة عن تفاصيل اتفاق سري يحمل اسم «العيون الخمسة» موقع في العام 1946 أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بنحو عام تقريباً، بين أميركا وبريطانيا وأستراليا وكندا ونيوزيلندا، وقد ظل هذا الاتفاق يشكل الأساس لتبادل المعلومات التي جرى التنصت عليها واعتراضها بين بلدان العالم، ومن بينها معلومات استخبارية عن الاتحاد السوفياتي خلال الأربعينات من القرن الماضي. هل تم إحياء هذا التعاون من جديد بحجة الإرهاب الإسلاموي والشرق أوسطي؟ تقرير «دير شبيغل» عن تحالف «العيون الخمس» يؤكد أن التنسيق الاستخباري قائم، وأن المرحلة الأولى من الحرب حادثة بلا شك، غير أنها مرحلة حروب غير عسكرية، لا نيران فيها ولا هجومات من البر أو البحر أو الجو، بل مجالها الفضاء الإلكتروني السيبراني، والذي هو ساحة الحروب الحقيقية للأجيال القادمة، لاسيما بعد أن أدرك التحالف الخماسي أن التنظيمات الإرهابية الجديدة تمتلك بالفعل كوادر وأعضاء قادرين على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة، كما جرى أخيراً مع اختراق حسابات تويتر ويوتيوب الخاصة بالقيادة المركزية الأميركية على الشبكة العنكبوتية. هل كان لواشنطن والعيون الخمس أن تقف مكتوفة الأيدي أمام الفصل الجديد من حروب الجيل السادس والتي للإرهابيين نصيب منها؟ تفيد مصادر بأن الاستخبارات الأميركية وفي تعاونها مع استخبارات الدول الخمس المشار إليها، تعمل وبسرعة ونجاح على برنامج يطلق عليه Ploiterain، يقوم على مجموعة من القناصين الإلكترونيين، ويتضمن إعداد متدربين محتملين، ويمكن للأبحاث، التي ستجري على أجهزة الكومبيوتر الخاصة بطرف ثالث، أن تؤدي إلى تخريب أو تدمير جهاز الخصم وقد طلبت وكالة الأمن القومي الأميركي NSA المغرقة في سريتها في الموازنة الأميركية الجديدة مبلغ بليون دولار لزيادة قوة عملياتها الهجومية على الشبكات الإلكترونية، ويتضمن هذا المبلغ بنداً بقيمة 32 مليون دولار لتطوير «حلول غير تقليدية» لمواجهة الحرب الإلكترونية المقبلة. نخلص إذاً إلى أن أمام قمة واشنطن استحقاقات لثلاث عمليات خطيرة، مسارها يتقاطع مع الشرق الأوسط والعالم العربي الأولى تتصل بالعمليات العسكرية النوعية الخاصة، عوضاً عن الغزوات الأميركية التقليدية، والثانية في الجانب السياسي حيث ستسعى إلى إضفاء شرعية لقرارات الحروب والهجومات المقبلة، بالترخيص لها من قبل مجلس الأمن والذي غالباً ما ستأتي موافقته في شكل سريع بعد أن أجادت واشنطن هذه المرة صياغة الملف، بخلاف المشهد القديم الركيك الخاص بالعراق، والذي أعتبره كولن باول وزير خارجية أميركا وقتها أنه «هراء». فيما المرحلة الثالثة والتي ستناقش سراً، تتصل بالتعاون المعلوماتي والحروب الإلكترونية في المواجهات المقبلة. هل الحروب المقبلة هي استكمال للخطة الأميركية غير المنجزة سواء في عهد بوش أو عهد أوباما؟ لقد حاول بوش إقناع العالم في مشهد تمثيلي بأن «المهمة قد أنجزت»، كان يقصد بذلك الحرب في العراق. وبعد نحو أثنتي عشرة سنة، بدا أن المهمة لم تنجز، لهذا يحاول أوباما أنهاءها ولكن بطريقة أكثر براغماتية، بمعني أنه لا يندفع بمفرده إلى ميادين القتال، بل يستخدم الذكاء الميكافيللي في تسخير الحلفاء، ودفعهم، هذا ما أشار إليه في خطاب حالة الاتحاد الأخير، إذ قال بالنص إنه «بدلاً من الانجرار إلى حرب برية أخرى في الشرق الأوسط، نحن نقود تحالفاً واسعاً، يضم دولاً عربية، لإضعاف ومن ثم تدمير الجماعة الإرهابية نهائياً». ملامح المعركة أو المعارك المقبلة تسربت من كلمات أوباما بقصد أو بغير قصد، ذلك أنه كي يظهر للعالم أن واشنطن المنقسمة الآن بين إدارة ديموقراطية، وكونغرس جمهوري، متحدة في هذه المهمة، أي حروب الإرهاب المقبلة، فقد قال إنه قد يطلب من الكونغرس تمرير قرار يعطيه صلاحية استخدام القوة ضد الجماعات الإرهابية، لا سيما داعش والقاعدة. يبقى السؤال الأخير: هل أوباما في حاجة حقيقية لحرب جديدة تحت غطاء الإرهاب؟ الشاهد أن كل رئيس أميركي تاريخي له حربه الخاصة التي يختبر فيها فحولته العسكرية، وعبر الصفحات الملطخة بدماء البشر يحاول كتابة اسمه في سجل القياصرة الأميركيين، لهذا فالحرب عند الرئيس الأميركي، كالولادة عند المرأة ودائماً وأبداً يفضل كل رئيس أميركي أن يكون مرهوباً عن أن يكون محبوباً. وبالنظر إلى سجل أوباما الخالي من أي إنجاز تاريخي على صعيد السياسة الخارجية، قد يخيل إليه أن سلسلة من المواجهات التكتيكية مع المجموعات الإرهابية، ربما ستضيف الى سجله، لا سيما أن قيادته للمفاوضات مع إيران سيعرقلها الكونغرس. * كاتب مصري
مشاركة :