يحتاج جير بيدرسون مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا إلى أن يتخلى عن طبائعه النرويجية لينسجم مع مهمته التي قد تؤدي به إلى اعتزال العمل السياسي. سوريا التي وُضع ملفها بين يديه تحتاج إلى أشياء كثيرة غير الدستور الذي صار بمني نفسه بكتابته ليخرج البلد المحطم من أزمته التي طحنته. ما لا يعرفه بيدرسون أن الدستور السوري الحالي الذي اعترض السوريون على عدد قليل من فقراته في بداية حراكهم السلمي عام 2011 ليس بالسوء الذي يتوهمه. ليست المشكلة في الدستور. المشكلة الأساسية تكمن في أنه لا قيمة للدستور في بلد مثل سوريا. فالدستور باعتباره قانونا عاما في حاجة إلى مَن يحميه. وإذا عرفنا أن الطرف المكلف بحماية الدستور هو مَن يخترقه ومَن يدوسه بأقدام مرتزقته، فلا معنى لوجود ذلك الدستور ولا معنى للجهود التي تبذل من أجل كتابة دستور بديل عنه. الحياة في ظل الدستور تستلزم عددا من الشروط التي يجب توفرها من أجل أن تكون ممكنة في حدودها الدنيا. ما لا يعرفه بيدرسون أن تاريخ سوريا المعاصر عبر الخمسين سنة الماضية قد صاغته فلسفة الحزب القائد الذي يؤله زعيمه ويضعه فوق القانون. وهو ما يعني أن أتباع ذلك الزعيم وأقربائهم وحاشيتهم وخدمهم والمبخرين لهم والمستفيدين منهم كانوا أيضا فوق القانون. ذلك تراث ثقافي عبأ المجتمع السوري بفكرة تأجيل النظر إلى القانون باعتباره مرجعا للفصل بين المتخاصمين. في سوريا لا يخاصم أحد أحدا إلا وقضى عليه وصفاه. تلك هي الشريعة التي انتجت الحرب الأهلية التي شهدتها سوريا عبر ثمان سنوات عجاف، ستبقى آثارها ماثلة لعقود مقبلة علينا هنا أن لا نغمض أعيننا عن الحقيقة فنهب المعارضة السورية صك براءة من تلك اللوثة التي أصابت الجميع. المعارضون السوريون هم أبناء ذلك المجتمع الذي تربى على عدم الثقة بالقانون. المعارضون السوريون لم يملكوا المقومات التي تؤهلهم لاحترام الدستور الذي يحرم على سبيل المثال التعامل مع دولة أجنبية ضد بلادهم. تلك جريمة يضعها الدستور في دائرة الخيانة العظمى. كان الفصل الأول من الثورة السورية قد بدا باجتماع عقد في إسطنبول برعاية تركية. تلتها الرعاية القطرية وبعدهما انفتح المعارضون السوريون علانية على أجهزة المخابرات التابعة لدول لا حصر لها. كان واضحا أنه لا أحد يعول على الدستور. وهو ما تعرفه روسيا جيدا. لذلك تبدو ليست على عجلة من أمرها في ما يتعلق بالملف السوري الذي صنعت منه ملفات لا حصر لها. على النقيض من بيدرسون فإن روسيا لا تعير مسألة كتابة دستور جديد لسوريا أهمية تذكر ولا تعول عليها، ذلك لأنها تدرك أن السوريين لن يعودوا إلى الدستور إذا ما اختلفوا في ما بينهم. الحرب هي الصيغة المتبعة لحل الخلافات. اما الدستور فإنه موجود باعتباره جزءا من أثاث الدولة الحديثة. تدريجيا سيكتشف بيدرسون أن النظر إلى الأزمة التي تحولت إلى حرب في سوريا لن تُحل ضمن أطر قانونية. لا لشيء إلا لأن أطراف تلك الأزمة كلها لا تؤمن بالقانون. اليوم لم تعد العودة إلى جذور تلك المسألة ممكنة ولا بذات الأهمية التي كانت عليها قبل ثمان سنوات. هناك نتائج كارثية على الأرض لا يمكن معالجتها عن طريق صياغة قانونية، يفترض أن تكون مرجعا لحياة سوية. فالحياة السوية لن تُستعاد في سوريا في ظل كل هذه التدخلات المتشابكة من قبل دول تبدو متعارضة المصالح فيما هي في الحقيقة ترى في استمرار مساهمتها المتكافلة في الكارثة السورية مناسبة لتأجيل تصفيات الحساب في ما بينها. ولا أدل على ذلك من اللقاءات المتكررة في سوتشي وستانا بين إيران وتركيا برعاية روسية. المشكلة في سوريا أن المسألة كلها قد خرجت من أيدي السوريين. اما اهتمام بيدرسون بكتابة دستور جديد فإنها تؤكد أن الدبلوماسي النرويجي المحترف لا يزال مغمورا بأوهام ما قبل الحرب السورية.
مشاركة :