في ظل ما تعانيه من نفاد في الاحتياطيات الأجنبية، ومن عجز متزايد في الموازنة، ومن صراع لتأمين مستقبلها المالي، تبالغ باكستان في إظهار حفاوة استقبالها للحاكم الفعلي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. إذاً، من السهل الوقوف على سرّ حاجة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان للأموال، وعلى وجه السرعة. وكعهده، حضر محمد بن سلمان إلى إسلام آباد ومعه وعود بالمليارات. لكن المال يمثل بُعْدًا واحدًا فقط من أبعاد العلاقة المتأصلة بين البلدين اللذين تجمعهما الكثير من المصالح. ومن المزمع أن تكون باكستان المحطة الأولى في جولة آسيوية تشمل خمس دول، لكن رحلتَي ولي العهد إلى إندونيسيا وماليزيا قد تأجلتا بخلاف زيارتيه للصين والهند اللتين يُنظر إليهما كخطوة ذكية من ولي العهد المثير للجدل.ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يعلن عن اتفاقيات بـ20 مليار دولار مع باكستانمحمد بن سلمان، حمام وبالونات وآمال استثمارية في استقبال ولي العهد السعودي في باكستانمظاهر بزخ الزيارة كانت آخر الزيارات الملكية السعودية المتسمة بالكثير من البزخ في 2006، وقام بها العاهل السعودي آنذاك، عبد الله بن عبد العزيز، في دولة باكستان النووية. وحظي الجانب الأمني باهتمام جادّ، تجلّى في تصريح عمران خان بأنه يتولى شخصيًا الإشراف على مهمة الترتيبات الأمنية. وتأتي جولة الأمير الشاب -33 عاما- وسط احتدام التوترات في المنطقة، بعد أن ألقت الهند باللائمة على باكستان في الهجوم الأكثر دموية على مدى عقود والذي استهدف قوات أمنية في الجزء الواقع تحت الإدارة الهندية من كشمير. وفور دخول موكب طائرات ولي العهد الأجواء الباكستانية مساء الأحد، سارعت إلى اصطحابه طائرات مقاتلة باكستانية من طراز JF-17 Thunder في حين توقفت جميع رحلات الطيران الأخرى. وحظي ولي العهد باستقبال عمران خان وقائد الجيش الباكستاني، حيث بُسطت له السجادة الحمراء بمطار عسكري وأطلقت المدفعية 21 طلقة تحية للضيف السعودي. وقاد عمران خان بنفسه محمد بن سلمان إلى مقر الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء، حيث لا يقيم خان فعليا ولكن لزيارة محمد بن سلمان التي تستغرق يومين، وهي المرة الأولى التي ينزل به ضيف في زيارة رسمية. ويُعتقد أن مئات الغرف فئة الخمس نجوم في إسلام آباد قد خُصّصت للوفد المرافق لولي العهد والبالغ تعداده ألف شخصية بارزة. وأشارت تقارير إلى أنه من ترتيبات الزيارة اطلاق آلاف الحمائم لدى استقبال ولي العهد. وسيُمنح أعلى وسام مدني باكستاني لولي العهد، الذي يمتدحه خان لـ "أفكاره الإصلاحية". ما سر حاجة باكستان الماسة للنقد؟ لم يعد يمتلك البنك المركزي الباكستاني سوى 8 مليارات دولار من الاحتياطات الأجنبية، فضلا عن ما يعانيه من أزمة في ميزان المدفوعات. ومنذ تنصيبه في أغسطس/آب الماضي طلب عمران خان، لاعب الكريكيت السابق المرموق، مساعدات مالية من الدول الصديقة، وألحّ في سؤاله تقليص حجم مساعدات المالية التي قد تحتاجها باكستان من صندوق النقد الدولي، في ظل ظروف بالغة الصعوبة. وتسعى باكستان إلى الحصول على حزمة الإنقاذ الثالثة عشرة منذ حقبة الثمانينيات، وكانت السعودية قد أقرضتها ستة مليارات دولار. وتأتي زيارة بن سلمان في أعقاب زيارة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان لباكستان، حيث تعهدت الإمارات العربية المتحدة بتقديم قرض قيمته ستة مليارات دولار لدعم اقتصاد باكستان المتأزم. لكن السعودية ترفع السقف وتعلن في تقارير إعلامية عن توقيع اتفاقيات مؤقتة بقيمة 20 مليار دولار. وتتمثل درة تاج تلك الاتفاقيات إبرام اتفاق لبناء مصفاة نفط جديدة بقيمة 10 مليارات دولار في ميناء غوادار الجنوبي. ويعتبر ميناء غوادار بمثابة المركز العصبي للممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني الذي تبلغ تكلفته 60 مليار دولار. وتحظى الأموال الصينية بالكثير من التقدير من جانب الحكومة الباكستانية، لكن محللين يقولون إنها تأتي مصحوبة بقيود؛ حيث تشترط الصين أن يتولى عمال صينيون أعمال بناء المشاريع الصينية، فضلا عن مخاوف من ازدياد نفوذ بكين. وعليه، فإن الأموال القادمة من دول الخليج تحظى بترحيب بالغ في باكستان.ماذا سيعود على السعوديين؟ بينما يسهل الظن أن باكستان بلد ينتفع من سخاء حلفائه على حساب سيادته، فإن المسألة ليست بهذه السهولة. السعودية أيضا تحتاج باكستان. وتأتي جولة ولي العهد في وقت شديد الخصوصية بالنسبة للمملكة إذ تعاني في الوقت الراهن من أزمة عالمية تتعلق بسُمعتها جراء دورها الخاص بالكارثة الإنسانية في حرب اليمن ومقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول. في ظل هذا المشهد، يُنظر إلى الزيارة باعتبارها خطوة ذكية من محمد بن سلمان، الساعي إلى تعزيز العلاقات مع حلفاء محل ثقة عبر توزيع الأموال. ومن الأهمية كذلك عدم نسيان ما تمثله باكستان من أهمية بالغة للسعوديين.مصدر الصورةGetty Images وتجمع البلدين علاقاتٌ عسكرية تمتد إلى عقود؛ وعندما تعرّض أقدس مقدسات الإسلام في مكة لهجوم من مسلحين قبل أربعة عقود، كانت قوات باكستانية هي التي تولت القضاء على هؤلاء المسلحين. يقول شاشانك جوشي، الخبير في شؤون جنوب آسيا ومحرر الدفاع لدى مجلة الإيكونوميست: "ثمة دائماً افتراض بأن باكستان ستكون قادرة على تقديم القوة البشرية إذا ما واجهت السعودية أزمة أمنية كبرى أو هجوماً كبيرًا". ويضيف جوشي: "السعودية، كبعض دول الخليج، تمتلك الكثير من المال لكنها لا تمتلك بالضرورة جيشًا قويا. أما باكستان فهي في المقابل لا تمتلك الكثير من النقد لكنها تمتلك جيشًا ضخمًا وقوياً". ويتابع جوشي قائلا إن التجربة لم تبرهن بَعدُ على واقعية ما تردد كثيرًا عن علاقة نووية وطيدة يُمكن للسعودية في ظلها الاستعانة بباكستان للحصول على التقنية النووية إذا حدث وامتلكت إيران -المنافس الإقليمي- سلاحا نوويا. وتتمتع السعودية بنفوذ ديني كبير في باكستان ذات الأغلبية السُنية، وبعد حرب السوفييت في أفغانستان في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، تمكنت الدولتان من تدشين شبكة ضخمة من المعاهد الدينية، والتي كان من بين أهدافها التصدي للنفوذ الإيراني. وفي الحقيقة، وقبل أسبوع من زيارة محمد بن سلمان لباكستان، كانت الشوارع الرئيسية بالعاصمة إسلام آباد مليئة بلافتات وملصقات تحيي الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية. لكن سرعان ما أزيلت وحلت محلها صورٌ لمحمد بن سلمان. ويمثل الحضور الإيراني كبلد مجاور لباكستان من ناحية أخرى، سببًا آخر وراء رغبة السعودية في تعزيز علاقاتها مع باكستان. يقول جوشي: "تسعى السعودية لضمان بقاء باكستان أقرب إلى الرياض منها إلى طهران". صحيحٌ أن قرار باكستان عدم الالتفات لدعوة السعودية بالانضمام إلى حرب اليمن قبل أربعة أعوام قد أضرّ بالعلاقات بين البلدين، لكن هذه الزيارة -التي تتزامن مع انتقال في القيادة السعودية بين جيلين- "تعتبر بمثابة صفحة جديدة" في تلك العلاقات.مسألة طالبان من بين ما يجعل توقيت هذه الجولة أكثر أهمية هو تزامنها مع تحولات جيوسياسية في المنطقة. وتجري محادثات غير مسبوقة لإنهاء الحرب في أفغانستان - حيث توجد مصالح لكل من باكستان والسعودية وإيران والولايات المتحدة. ويقول شاشان جوشي، إن محادثات رفيعة المستوى جرت في قطر -البلد الخليجي الذي تشهد العلاقات بينه وبين السعودية تصدعًا- ويرغب المسؤولون السعوديون في الوقوف بالضبط على ما دار في تلك المحادثات من قادة الجيش الباكستاني. ويضيف جوشي: "وستحرص السعودية على تمكين فصائل من طالبان قريبة منها بدلا من تمكين فصائل أخرى قريبة من إيران في الحفاظ على استمرار عملية السلام".
مشاركة :