زالت بالفعل أجواء التشاؤم عن المفاوضات الجارية حاليا بين الولايات المتحدة والصين، للوصول إلى اتفاق تجاري ينزع فتيل المعارك التجارية بينهما. ولكن، هل قابل ذلك أجواء تفاؤل؟ البعض يقول لا، لأن المسار التفاوضي وإن كان سلسا، إلا أنه يصطدم بعوائق كثيرة. لكن هناك جهات تعتقد حقا أنه يمكن إطلاق توصيف تفاؤلي على هذه المفاوضات، لأنها تحقق تقدما ما، يضاف إلى ذلك تصريحات المسؤولين في كلا الجانبين، التي تشير إلى هذا التقدم. حتى إن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، أشار إلى إمكانية تمديد فترة المفاوضات التي حدد لها سابقا 90 يوما، ما يعزز الاعتقاد بوجود مساحات واسعة للتحرك ضمن الإطار التفاوضي من أجل الوصول إلى اتفاق ينتظره العالم أجمع. الأمور ليست "وردية" تماما، لكنها مطمئنة على الأقل في هذا الوقت. المفاوضات الأخيرة "كما أشار ترمب" كانت مثمرة، والآليات الخاصة بأي اتفاق بدأت تبرز على السطح. وحتى المسؤولون الصينيون يتحدثون بالوتيرة الإيجابية نفسها، بصرف النظر عن الكلام المتحفظ بعض الشيء الصادر عن الرئيس الصيني شي جينبيج، الذي أشار إلى وجود مسائل صعبة لا تزال عالقة. والفارق بين هذه الأجواء وتلك السابقة أن الأخيرة كانت تشهد "مسائل معقدة" وليست صعبة، يضاف إليها بالطبع التشدد الذي ساد بين واشنطن وبكين، بل لنقل التهديدات بينهما. فـ"الحرب" التجارية دارت بالفعل بين الطرفين، وتم فرض رسوم جمركية إضافية من كلا الجانبين. واستغلت الصين سابقا الموقف الأمريكي المماثل تقريبا حتى مع حلفاء واشنطن التقليديين، كي تسوق إلى "المظلومية" التي تتعرض لها. المهم: إن هذه الحرب لا تخص الولايات المتحدة والصين وحدهما. فانعكاساتها فادحة على الساحة العالمية، ناهيك عن وجود خلافات بلغت حد المعارك التجارية بالفعل بين واشنطن والعواصم الأوروبية الرئيسة، ما انعكس سلبا على العلاقات السياسية والتحركات المشتركة حيال قضايا عالمية محورية. وأسهمت تصريحات ترمب المستمرة الداعية إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأي صيغة كانت، في زيادة التوتر الأمريكي - الأوروبي، إضافة إلى خلافات أخرى تتعلق بحلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة التمويل، الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (مثلا) إلى الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد. وهي دعوة جاءت في أسوأ مرحلة تمر بها العلاقات بين القارة الأوروبية والولايات المتحدة. أي إن المشهد العام يتطلب بالفعل اتفاقا تجاريا بين واشنطن وبكين ينهي الحرب القائمة، ويخفف التوتر التجاري على الساحة الدولية. المطلوب الآن، تمديد "الهدنة" في الوقت المناسب، إذا لم يتمكن الطرفان الأمريكي والصيني من الاتفاق قبل نهاية الشهر الجاري. وإذا لم تحقق هذه المفاوضات شيئا في النهاية، فإن الصين ستتعرض لفرض رسوم جمركية هائلة على صادراتها للولايات المتحدة، وبالطبع لن تقف مكتوفة الأيدي لأنها ستقوم بالمثل. وكما هو معروف، ففي حال فشل المفاوضات، سترفع واشنطن على الفور التعرفة الجمركية على الواردات الصينية من 10 إلى 25 في المائة، في حين تصل قيمة هذه الواردات إلى 200 مليار دولار سنويا. والعقدة لا تتوقف عند هذا الحد على الجانب الأمريكي. فالأمريكيون يريدون من الصينيين التوقف تماما عن مطالبة الشركات الأجنبية بنقل التكنولوجيا لشركاتها بصورة قسرية كشرط للعمل في الصين. والحق: إن دولا أخرى إلى جانب الولايات المتحدة تعاني هذا الشرط الصيني، ودخلت بالفعل في خلافات مع بكين، إلا أنها لم تصل إلى مرحلة نشوب معارك تجارية أو تؤسس لحرب في هذا القطاع الحيوي العالمي. يضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة تريد وضع حد لقرصنة المعلومات التي تقوم بها الصين. وهذه أيضا نقطة تعانيها دول أخرى غير الولايات المتحدة. ومن أهم النقاط أيضا: العمل على تخفيض العجز التجاري الكبير بين الصين والولايات المتحدة. وهو عجز تحدث عنه ترمب مرارا حتى قبل أن يصل إلى البيت الأبيض. هناك كثير من المسائل لا تزال بلا حل بين الطرفين المذكورين، إلا أنه يبدو أنهما حريصان على الاستمرار بالمفاوضات حتى الوصول إلى الغايات. لكن ومهما كان مستوى أجواء التفاؤل أو التشاؤم، هناك عقدة محورية قديمة تتعلق بضرورة أن تجري الصين إصلاحات بنيوية على الصعيد التجاري. فلاتزال هناك تشريعات صينية تتضارب مع أي اتفاقات محتملة مع الولايات المتحدة وغيرها. ولم تقم بكين بمحاولات جادة في هذا المجال، على الرغم من مطالبتها عالميا قبل سنوات بحتمية هذا التصحيح. العالم لا يتحمل الآن حربا تجارية واسعة، وهو خارج للتو من الآثار المدمرة للأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008. ورغم أن المفاوضات الراهنة صينية-أمريكية، إلا أن روابطها العالمية كبيرة جدا. وهي محل متابعة دولية لأن مخرجاتها ستكون حاسمة في قضايا كثيرة على الساحة التجارية. الوقت لا يزال متاحا لاتفاق يحمي العالم من حرب تجارية كبرى.
مشاركة :