رحيل «القيصر» كارل لاغرفيلد مصمم دار «شانيل» للأزياء

  • 2/20/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

منذ أن نجح طبيب فرنسي للتغذية في إنقاص وزن كارل لاغرفيلد، مصمم الأزياء الألماني، السويدي الأصل، ولم يحدث أن رآه الناس من دون قميص أبيض ذي ياقة ترتفع حتى أعلى الرقبة وقفازات جلدية تغطي اليدين، صيفاً وشتاءً. هل كانت تلك هي طريقته في ممارسة لعبته المفضلة بإحاطة نفسه بالغموض، أم مجرد محاولة لإخفاء التجاعيد والبقع القاتمة التي تظهر على ظاهر الكف عند الشيخوخة؟ المؤكد هو أن المصمم الذي أدار القسم الفني في دار «شانيل» الباريسية المرموقة، كان لغزاً عجيباً حتى لبعض المقربين منه. فهو في مهنته فنان كبير مبهر، لكنه أيضاً نجح في أن يجعل من نفسه أيقونة عالمية الشهرة. وبهذا، فإن ما تركه من إرث سامق في تصميم الأزياء ينافس موهبته في أن تكون له شخصيات عدة على امتداد مراحل عمره الطويل. وهناك من أصدقائه من يؤكد أن الرجل «الغامض بسلامته»، الدائم التجهم، النادر الابتسامة، كان إنساناً بالغ الهشاشة؛ لذلك سعى لأن يحيط نفسه بدرع واقية من التحفظ والتهذيب. ولا شك أن طريقته في إعادة تجديد نفسه قد سمحت له بالمطاولة في عالم الموضة بشكل نادر بين أقرانه الكبار. سار لاغرفيلد دائماً نحو الأمام دون الالتفات إلى الخلف بأي شكل من أشكال الحنين. ولم يكن يحب الحديث عن طفولته وتاه تاريخ ميلاده بين 1933 و1935. كان ميالاً للغرائب بشكل جعل منه مدرسة في هذا الميدان. فهو كان يحمل بيده مروحة مزركشة في فترة من الفترات، ولا يخلع نظارته السوداء، ويربط شعره بشريط، ويزين أصابعه بالخواتم، أو يرتدي كفوفاً تخفيها، أو يغطيها بأنامل مصبوبة من الفضة، أو يشبك فصاً من الألماس في ربطة عنقه، دون أن يملّ من لعبة المراوغة وإطلاق الدخان الذي يموه حقيقته عن الأعين. هل هو الذكاء أم مسّ الجنون؟ لا بد هنا من أن نسترجع القول المأثور: الجنون فنون. فقد كان مسيو لاغرفيلد فناناً من قمة شعره الفضي حتى كعب حذائه العالي. يمكن لمن ينبش في حياته أن يقع على نتف من حقيقته. فقد كان والداه يشبهان شخصيات الروايات. فالأب من أصل سويدي عمل في المقاولات وكسب ثروة، لكنه أفلس ثلاث مرات، وانتهى به المطاف إلى شراء مزرعة كبيرة قرب هامبورغ، في ألمانيا، ونجحت تجارته في توزيع حليب «غلوريا» المعلب في بلدان أوروبية عدة. أما أمه فكانت بمثابة بطلة أنيقة وثلجية الهيئة، نراها تقف لالتقاط صورة أمام مشاهير المصورين أكثر مما تحمل ابنها الطفل وتداعبه. كانت موسيقية مهووسة بالموضة الراقية، تتردد على الصالونات الباريسية الشهيرة في النصف الأول من القرن الماضي. وهي قد أنجبت كارل بعد أن تجاوزت الأربعين ولم ينجب الزوجان غيره. وهو قد حاول أن يرسل إلى ملفات النسيان حقيقة أن له أختين غير شقيقتين أكبر منه. لقد ظل هو أمير العائلة. سبق عمره في النضج وفي الميل إلى التهام الكتب. ومن تصريحاته النادرة عن مرحلة طفولته قوله: «تلقيت تربية سمحت لي بأن أتعلم القراءة والكتابة والتحدث باللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية وأنا في سن السادسة». كان لا يقرأ الكتب فحسب، بل تمسح عيناه صور مجلات الموضة والرسوم الملونة لثياب الممثلات ونجمات المجتمع. وأهم من هذا كله أنه كان يرسم. فقد ضاقت والدته بتمارينه في العزف على البيانو، وكان رأيها أن الرسم لا يتسبب في الضجيج. عاش الولد لاغرفيلد فيما يشبه البلورة خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهائها وحال بلوغه سن الرشد قصد باريس، عاصمة الموضة التي لطالما حلم ببلوغها. وتمكن، سنة 1954 من الفوز في مسابقة نظمتها الأمانة الدولية للصوف في فرع تصميم المعاطف. وهي المسابقة ذاتها التي فاز بجائزتها في فرع الفساتين شاب آخر آتٍ من وهران في الجزائر، اسمه إيف سان لوران. ومع الفوز تفتحت أمام الشاب الألماني بوابات دور الأزياء الباريسية المعروفة فعمل في البداية مع المصمم بيير بالمان، ثم مع باتو الذي عيّنه مديراً فنياً. وبعد ذلك قرر أن يعمل مستقلاً، دون أن يرتبط بدار محددة، ويسعى لوضع أسس أسلوبه الخاص في التصميم والخياطة. وخلال ذلك كانت عائلته تلبي احتياجاته كافة. فقد كان له حساب مفتوح في أرقى المتاجر لشراء ملابسه وأحذيته. وفي مقابلة قديمة له مع صحيفة «لوموند»، قال: «في سن الحادية والعشرين اقتنيت سيارة من نوع (بنتلي)، وكنت من الحماقة بحيث إنني تصورت ذلك أمراً طبيعياً». كانت فرنسا الخارجة من الحرب غير ميالة لتبني شاب ألماني مهما كانت موهبته. لذلك؛ فقد عمل لاغرفيلد ليل نهار لكي يثبّت أقدامه، ولم يكن يشبه الابن المدلل لعائلة ثرية. ثم حان وقت قطاف ثمار الجهد. وفي 1964 أصبح مديراً للابتكار لدى دار «كلوي»، وفي السنة التالية دخل إلى دار «فيندي» التي كانت مؤسسة عائلية إيطالية. وبين باريس وروما كان المصمم الألماني شاهداً على ولادة واحد من أهم ابتكارات القرن العشرين فيما يخص صناعة الأزياء، ألا وهي الثياب الجاهزة. ومع مرور السنوات صار لاغرفيلد المصمم الذي يخالط النخبة في سهراتها وحفلاتها ولياليها الملاح. يمضي الصيف في منتجع «سان تروبيه» ويمضي الساعات ممدداً تحت الشمس لاكتساب اللون البرونزي، مرتدياً ثوب سباحة للرجال يعود لسنة 1920. لقد عاش السبعينات المجنونة دون أن ينغمس فيها، يراقب موسيقاها وشطحاتها من وراء الزجاج. ما حقيقة علاقته بزميله سان لوران؟ هل نشأت بينهما قصة عاطفية تسببت في تصدع شلة كل منهما؟ هناك من يؤكد أن تلك القصة كانت سبباً في غيرة شديدة من جانب بيير بيرجيه، الثري الذي رعى سان لوران ووقف بجانبه حتى رحيله. لا أحد يملك الجواب طالما أن لاغرفيلد لا يميل إلى الثرثرة ويعشق التواري والهمهمات بدل التصريحات. لقد جعل من العمل عشقه الأول والأخير. وتكلل ذلك بتعاقده مع دار «شانيل» العريقة سنة 1982 قائداً لها. كانت الدار قد تقادمت وتحتاج إلى من يستطيع أن ينفض عنها الغبار دون أن يحيد بها عن الأسس التي شيدتها مؤسستها المدموازيل كوكو شانيل. وهو كان ذلك الشخص المناسب. وبعد سنتين أطلق علامة تجارية تحمل اسمه، تلتها مشروعات أخرى، دون أن يغادر «شانيل». وهكذا رأيناه مصمماً للملصقات الإعلانية للدار، ومصوراً يقيم المعارض لصوره الفوتوغرافية، ومؤسساً لمجلات للموضة. مع حلول التسعينات بدأ يتوارى وراء العوينات السود والمراوح التي يحركها أمام وجهه. وهي الفترة التي أعاد فيها الألق للحرفين المتعاكسين من اسم الدار، وأيضاً الفترة التي اكتشف فيها عارضة استثنائية أحدثت ثورة في عالم الموضة هي الألمانية كلوديا شيفر. بعد ذلك، أواخر التسعينات، صار اسمه يتردد في ملاحقات من دوائر الضريبة، وفي فضائح سياسية صغيرة مع وزير الاقتصاد يومذاك، دومنيك شتروس كان. فقد توجهت نحوه أصابع الاتهام بأنه تلقى معاملة تفضيلية من الوزير لتسوية قضية الضرائب المتراكمة عليه. وقد سدد لاغرفيلد ديونه للدولة الفرنسية وواصل طريقه برأس مرفوع بعد أن باع عدداً من مجموعته من قطع الأثاث التاريخي العائد للقرن الثامن عشر. وفي تلك السنوات نفسها قرر أن عليه التخلص من وزنه الزائد المتراكم، ونجح في فقدان 43 كيلوغراماً على يد الدكتور جان كلود أودريه الذي استفاد من الموضوع ونشر كتاباً حول الموضوع وراح الناس يتبعون «حمية كارل لاغرفيلد». بعد عام 2000 راح مصمم النخبة يتجه نحو موضة أكثر ديمقراطية وأقل أسعاراً. وهكذا تعاون مع شركة «إتش أند إم» للثياب الشبابية الجاهزة وصمم لها عدداً من مجموعاتها. بعد 60 عاماً من العمل المضني لم يعد لـ«القيصر كارل» ما هو مطالب بإثباته. وهكذا انسحب إلى منزله في شارع «يونيفرستيه» في باريس ليمضي أخريات أيامه. إنه واحد من بيوته التي تحوي قرابة 300 ألف من الكتب واللوحات والصور والأثاث النادر. ولم يكن وحيداً، بل أحاط به عدد من الأصدقاء المخلصين الذين عملوا معه طوال السنوات الماضية، ومعهم قطته الشهيرة «شوبيت» التي تلقاها هدية من العارض باتيست جيابيكوني. مع هذا ظل معتزلاً حتى في محيط خلصائه. أليس هو الذي قال في حديث مع «باري ماتش»: «العزلة هي قمة قمم الثراء»؟

مشاركة :