أميركا وآمال العرب منذ وودرو ويلسونهل كانت السياسة الأميركية متوازنة وعادلة أو تتسم بالحد الأدنى من المنطق، في عهود الرؤساء السابقين "العقلاء" وأنها لم تفقد رشدها إلا عهد الرئيس دونالد ترامب دون سواه؟المسارات الإجرائية على الأرض لصالح "الصفقة" الغامضةعندما يؤدي التاريخ وظيفته المعرفية، وتستفيد النُخب السياسية من العبر والدروس التي مرّت على أمتها وعلى الأمم الأخرى؛ يكون للرُشد والنباهة سياقهما في التعاطي مع أطروحات القوى الدولية النافذة التي تلعب بمصائر الشعوب. وللعرب في مشرقهم ومغربهم، تجربة طويلة مع القوى النافذة.اليوم تتحدث الإدارة الأميركية عن مشروع أطلقت عليه صفة “الصفقة” تأثراً بتجربة الرئيس الأميركي الراهن في سوق المضاربات العقارية، وما هو معلوم، فإن المقصود بهذه الصفقة، تسوية النزاع الأقدم عهداً في منطقة الشرق الأوسط، وهو العربي ـ الإسرائيلي الذي تقلص إلى نزاع فلسطيني – إسرائيلي. وفي الحقيقة، كان حديث الإدارة الأميركية عن “صفقة القرن” هذه بأسلوب التلميح والإفصاح المجتزأ عن مضمونها وبطريقة تدل على أن الصيغة النهائية لم تكتمل ولم تنضج لدى أصحابها، وأنها لا تزال في طور الاستعراض الإعلاني عن شيء لم يكتمل عمله وإن عُرفت مقاصده. أما الجانب العربي، بما فيه الفلسطيني، فقد أظهر سريعاً، وفي واحدة من الاستثناءات النادرة في التعاطي مع الولايات المتحدة الأميركية، صدوداً عن تقبل هذا المنطق ورفضه والتمسك بثوابت القضية الفلسطينية ومرجعيات حلها.بالمقابل كانت المسارات الإجرائية على الأرض، لصالح “الصفقة” الغامضة، تفعل فعلها، ويدفع إليها، طرفا الخصومة الفلسطينية باستمراء الانقسام والسجال واشتراط كل طرف منهما على الآخر، لتكون المحصلة فقدان الحال الفلسطينية لعنصر المناعة والتماسك والقدرة التي يعوّل عليها كل مؤيدي قضيتهم، لإفشال المخطط الأميركي لتصفية القضية لصالح المشروع الإسرائيلي الأكثر تطرفاً ورفضاً لعملية التسوية!يصح القول إن أسلوب عمل إدارة دونالد ترامب على الصعيد الدولي، ساعد على عدم النظر بجدية إلى أطروحاته من الجانب الرسمي العربي. فعلى الأقل، كان الرئيس ترامب يعطل على نفسه، عندما أعلن عن اعترافه بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل وعن نقل السفارة الأميركية إليها، فإن كان هذا هو عنوان صفقته، فلم يعد أمام الطرف الآخر إلا أن يرفضها قبل أن يعرف باقي مضمونها. وهنا تكون الرعونة قد كشفت عن نفسها، مثلما يحدث في كل يوم، على صعيد علاقة الإدارة بالمؤسسات الدستورية في الولايات المتحدة.لكن السؤال الذي لا يتردد المرء في الجواب عنه سريعاً وبالنفي: هل كانت السياسة الأميركية متوازنة وعادلة أو تتسم بالحد الأدنى من المنطق، في عهود الرؤساء السابقين “العقلاء” وأنها لم تفقد رشدها إلا عهد الرئيس ترامب دون سواه؟الجواب – بالطبع- لا. فالسياسة الأميركية لم تعرف الرشد طوال تاريخها، ولم تتعاطَ باحترام مع الجانب العربي، ولم توازن حتى بين مصالحها وضرورات الأخذ بالحد الأدنى من المنطق. ولكي تؤخذ الأمور من قصيرها، لنأخذ من التاريخ الدرس الذي تعلمه مبكراً الساسة المصريون، في مرحلة النضال من أجل الاستقلال الوطني.في الحادي عشر من نوفمبر 1918 وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبعد يومين اثنين، أعلنت مجموعة من الشخصيات الاستقلالية المصرية، عن تشكيل وفد برئاسة سعد زغلول للسعي إلى الاستقلال “حيثما وُجد للسعي سبيلاً” حسب ما جاء في بيان تلك المجموعة.لقي تشكيل الوفد قبولاً شعبياً حسناً، لاسيما عندما بادر ثلاثة من أعضائه (سعد زغلول وعلي الشرقاوي وعبدالعزيز فهمي) إلى مقابلة رينغنالد وينغت، ممثل بريطانيا أو مفوضها وحاكم مصر الفعلي، وأبلغوه بوصفهم نواب الأمة بطلب أن تعترف إنكلترا باستقلال مصر على قاعدة استعداد مصر أن ترتبط مع إنكلترا بمعاهدة صداقة تكونان فيها ندّين متساويين!السياسة الأميركية لم تتعاط، طوال تاريخها، باحترام مع الجانب العربيالسياسة الأميركية لم تتعاط، طوال تاريخها، باحترام مع الجانب العربيوكانت القبضة الأمنية قد فعلت فعلها الشائن في المصريين طوال فترة الحرب، وطُبّقت الأحكام العرفية، وتقصّدت سلطة الاحتلال الإنكليزي الملاّك والمزارعين والفلاحين بالاستيلاء على دوابهم ومحاصيلهم، وتجنيد أبنائهم قسراً في فرق عمال باسم متطوعين. ومع انتهاء الحرب، تطلع المصريون إلى الفرج والاستقلال. لكن السلطة العسكرية البريطانية اعتقلت أربعة من مجموعة الوفد، وعلى رأسهم سعد زغلول وأودعتهم الحجز في جزيرة مالطا، ما أشعل ثورة 1919 التي لم يتوقع الإنكليز أن تكون بتلك الضراوة.كان الفضل للأميركيين في حسم الحرب لصالح الحلفاء وإلحاق الهزيمة بألمانيا. فالأخيرة، ارتكبت الخطأ الذي تكرر في الحرب العالمية الثانية عندما هاجمت روسيا وجعلتها تدخل الحرب ضدها وترجّح كفة الحلفاء. في الحرب الأولى هاجم الألمان السفن الأميركية في المحيط الأطلسي، فدخل الأميركيون بكل ثقلهم وازداد إنتاجهم العسكري أضعافاً وفرضوا سلطانهم في البحر. وكان وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة، قد أعلن في يناير 1918 شروطه لإنهاء الحرب، بالأربعة عشر بنداً التي سمّيت مبادئ لإقرار السلم ولإعادة بناء أوروبا من جديد، مع الاعتراف بحق الأمم في تقرير مصيرها!نزلت مبادئ ويلسون على رؤوس رجال الاستقلال في مصر برداً وسلاماً وهنّأوا بعضهم بعضاً، وفي مناقشاتهم كانوا يؤكدون على يقينهم بأن الاستقلال آت سريعاً، ويقولون إن المحتل الإنكليزي ليس هو المنتصر، وإنما الأميركي هو صاحب الفضل في حسم الحرب، وهو الذي سيتولى إعمار أوروبا، وبالتالي لم يعد الإنكليز قادرين على الاستمرار في سياستهم الاستعمارية. وقد عزز هذا الاعتقاد، أن لندن، لم تجد حلاً لثورة المصريين، سوى اللجوء إلى التهدئة بخطوة ماكرة توحي بأنها غيّرت سياستها. فقد سحبت من مصر المفوض ذي العصا الغليظة والكرباج، ريغنالد وينغيت، وعينت مكانه إدموند اللنبي قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط أثناء الحرب، الذي احتل القدس وبات يتمتع بشعبية في بريطانيا. وسرعان ما أعلنَ اللنبي الإفراج عن سعد وأصحابه وسمح لسائر أعضاء مجموعة الوفد بالسفر لحضور مؤتمر الصلح في باريس، وأن تمر السفينة التي تحمل أعضاء الوفد، على جزيرة مالطا، لكي تحمل سعد ومن معه وباقي الوفد القادم من مصر، إلى مرسيليا، وهكذا كان!غير أن الذي كان أيضاً، هو التزامن بين وصول الوفد إلى مرسيليا، وإعلان الرئيس وودرو ويلسون اعتراف الولايات المتحدة بالحماية البريطانية على مصر. وكان ذاك الإعلان، في وقته، محبطاً ومخيّباً للآمال، ومن جنس إعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل!كاتب وسياسي فلسطيني
مشاركة :