"نحن نصنع أكبر سلاح للقمع في تاريخ البشرية". هكذا يصرح إدوارد سنودن في الفيلم الذي حاز جائزة الأوسكار لعام 2015، في الحفل الذي أقيم مساء الأحد، لأفضل فيلم وثائقي. إذ يحكي فيلم "المواطن أربعة" قصة سنودن، ليفسر قراراته التي تنافي قيماً أهمها المحافظة على سرية معلومات جهة عمله في وكالة الأمن القومي، وإفشاء معلومات سرية في سبيل الحق العام في الخصوصية وحرية الرأي. وهو ما تورط فيه الشاب إدوارد سنودن في وقت سابق. يبدو سنودن في الفيلم شابا وديعا يرتدي نظارة طبية، وتظهر على ملامحه اهتمامه المفرط بالدراسة والحاسوب. هذا الشاب يتسبب في الكشف عن فضيحة تجسس على المواطنين كافة، وانعدام الخصوصية، بالأخص في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ليتساءل المرء إن كان حقاً بطلاً قومياً أم خائناً أخرق تسبب في إنهاء استقرار حياته. فيلم "المواطن أربعة" من إخراج لورا بواترس، التي قررت عقب الفيلم الهجرة إلى ألمانيا خوفاً من السلطات الأمريكية. ولا يعد الفيلم أول مغامرة أو تحد للسلطات، فقد اختارت المخرجة من قبله فيلمين وثائقيين حول حرب العراق، وسجن جوانتنامو، لتجسد حال أمريكا في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ما تسبب في اعتقالها واستجوابها عبر الحدود الأمريكية عدة مرات. وقد اختارت بواترس عنوان الفيلم بناء على الاسم المستعار الذي اختاره سنودن "المواطن 4"، ليرسل من خلاله رسائله المشفرة عبر البريد الإلكتروني للمخرجة. على الرغم من خلو الفيلم من أي حركة وجلبة كما تشهد في أفلام الإثارة والتشويق، إلا أن فيلم المواطن أربعة، حمل ترقباً يدفعك لأن ترغب في معرفة ما يحدث لإدوارد سنودن، بطل الفيلم الأوحد، يسلط الفيلم الضوء على تقلباته النفسية ووجهة نظره أثناء احتباسه في حجرة فندق في هونج كونج، واضطراره إلى إخفاء هويته. تميز فيلم "المواطن أربعة" بتصوير من الطراز الواقعي، يجعلك تعيش كل تلك اللحظات التي يمر بها سنودن، كل ذلك القلق، والقرارات المفصلية في حياته، التي أثرت في ملايين الأشخاص، حيث أدركوا أنهم مراقبون في دولة تعتد كونها تدافع عن الحريات وحقوق الإنسان في العالم. مبتعداً عن حياة الرفاهية والمرح التي يعيشها من هم في سنه. الفيلم يناقش الرقابة التي يتعرض لها الملايين دون معرفتهم بذلك، وإنكار عدد من المسؤولين حدوث ذلك. وعلى الرغم من إمعان سنودن في إقناع المشاهدين بأنه مقتنع بقراراته ولم يتراجع عنها مطلقاً، يظهر القلق الكامن داخله بالظهور تدريجياً إلى السطح، عبر الهالات السوداء تحت عينيه، التي تزداد اسوداداً كلما مر به الزمن، وأدرك محاولة السلطات عالمياً القبض عليه. الأبطال الآخرون يظهرون في الفيلم بشكل أخف، أهمهم الصحافي جلين جرينوالد، الذي كان يعمل وقتئذ في صحيفة الجارديان، وحصل هو وبواترس على سبق صحافي بفضل سنودن. وظهرت حماسته الشديدة في مناقشة قضية سنودن والتجسس على المواطنين، وقد استمر دعمه لسنودن على المدى البعيد وإمداده بالمساعدات اللوجستية. المخرجة هي الأخرى كانت بطلة تميزت بحضور وغياب في الآن ذاته، حيث لا تظهر صورتها، باستثناء رسائل نصية بينها وبين سنودن وجرينوالد. تتقاطع الأحداث لتظهر متمرداً آخر هو زعيم ويكيليكس، جوليان أسانج، الذي من خلال سفارة الإكوادور في لندن، تمكن من مساعدة سنودن وتهريبه إلى روسيا، حيث حصل على اللجوء السياسي، لتظهر تلك الجماعات الدولية المتمردة التي تعاند السلطات، وتفصح عن ملفات مهمة أمام الملأ، سعياً في دعم متبني فلسفتها في سبيل الحفاظ على الحريات والخصوصية. لن تختلف المعلومات التي يلحظها المشاهد أثناء الفيلم عن تلك التي قرأها في الأخبار والتقارير، إلا أن اللافت هو تسليط الضوء على سنودن والشبكة الداعمة له، بالأخص قبل عملية إفشاء المعلومات في مرحلة مكوثه في هونج كونج في عام 2013، وهو مما قد يتسبب في سخط المسؤولين. بالأخص لأن من حوله من داعمين كبواترس وجلين قاموا بإخفاء هويته وتهريبه في أمان بعيداً عن أي محاكمة لما يعتبرونه جرائم ضد عمله ووطنه. الفيلم مميز بواقعيته وتسليطه الضوء على سنودن في المراحل الجسيمة في حياته. وإن كان من الأجدى التركيز على إنسانية سنودن، ومحاولة إظهار الجوانب الأخرى من شخصيته لتعميق التأثير في الآخرين، خصوصاً أن الفيلم كله ينحصر على أعماله ومبررات قراراته. الشعور بالترقب وتفاقم القلق الذي يتدرج من شخص نزق يتحدث عن رغبته في الإفشاء عن الأسرار في سبيل الحرية، إلى شخص مطارد في كل مكان. وإن كان تباطؤ الأحداث يتسبب في شيء من الرتابة التي يتململ منها المشاهد، إلا أن جل الاستمتاع يكمن في رؤية تحرك عدسة الكاميرا لتركز على ملامح سنودن، اختلاجاته وقلقه النفسي. يظهر كشاب خجول بريء يستحيل الشك في أنه تسبب في بلبلة وإرباك السلطات الأمريكية بذلك الشكل. ويرغمك كل ذلك أن تشعر بالأسى سواء كنت داعماً لرؤيته الباحثة عن حريات وخصوصية الآخرين، أو كنت ممن يرفض تأييد توجهات سنودن، ويرى في أفعاله خيانة وإفشاء لأسرار كان من الأحرى بقاؤها مدفونة. وإن كانت التضحية التي قام بها تستحق كل ذلك العناء، فقد أثرت فيه مدى الحياة إذ أضحى مطارداً أبدياً. *روائية وكاتبة سعودية
مشاركة :