الشارقة: عثمان حسن يطرح «بينالي الشارقة 14» الذي يعقد تحت شعار «خارج السياق» في آذار/ مارس المقبل، تساؤلات حول إمكانية إنتاج الفن، خاصة حين تصبح الثقافة المادية تحت تهديد التدمير البشري المستمر وتدهور المناخ، وسيمنح العديد من الفنانين، عبر توفير منصته الفنية فرص تنفيذ مشاريع وتجارب واقتراحات جمالية متنوعة تستكشف موضوعات البينالي في محاور مثل: تغير المناخ، الزراعة، الصراع السياسي، والإنتاج الفني. تتسع طروحات البينالي لمناقشة عدة مفاهيم، ذات صلة بالفنون الشعبية من جهة، والفنون ذات المرجعيات والمدارس والتيارات الأكاديمية الصرفة من جهة أخرى، وإمكانات هذه الفنون في الوصول إلى الناس إنتاجاً وتوزيعاً. وفي الشق المتعلق بالفنون ذات المرجعيات والأطر الأكاديمية، ثمة ربط ميكانيكي بقضية الاحتكار، ويصبح لهذا الفهم حيز ومكان، يستعير الهيمنة التاريخية لرأس المال، مع مفهوم أقرب إلى ظاهرة العولمة، وهو الذي يحفز عند الفنانين نقاشات مهمة، تحاول إخراج هذا المفهوم من حيزه المغلق، نحو الفنون الشعبية في صلتها مع البشر وطقوسهم ومعتقداتهم، وقد صمم البينالي ثلاثة معارض رئيسية تستكشف إمكانات صنع الفن انطلاقاً من حركية المجتمع، في إطار يستدعي نوعاً من النقاش إزاء كل ما يهدد البشرية من خراب ودمار وبيئة ومناخ. ثمة تركيز من قيمي البينالي على توصيف الفنون، تبعاً لحقيقتها النسبية، فلا حقائق ثابتة في الفن، وهو طرح ينسجم مع قدرة الفنون على استيعاب الآخر، وسماع صوته، وبالتالي الخروج من حيز الاحتكار، نحو مساحة تكشف عن رؤى ومشتركات إنسانية، تضع تصورات لعالم أفضل، وتتيح إمكانية التواصل مع الأفكار والمثل والمعتقدات المتنوعة. يطرح البينالي ضمن هذه المحاور مفهوم «صناعة الفن» وهو مفهوم يجاور مصطلح «الصناعة الثقافية» بوصفه حجر الأساس في ولادة ما عرف بالأثر الفني الغربي المُعاصر. هنا، نحن أمام تصنيف فني ذي معايير جمالية وقيمية وخاصة، لا يتناسب مع حركة الفنون بوصفها نتاجاً بشرياً جامعاً، وهو مفهوم يحجر على ثقافة الفنون، سواء كانت أكاديمية أو شعبية، ولا يجعلها متاحة لكافة البشر، وهو طرح يغالي في توصيف الفن، ويخرجه من رحابة الفطرة والإجماع الإنساني، وحساسيات الذوق والمعرفة البشرية على إطلاقها. يختلف النقاد في تعريفهم للمادة الفنية، حيث يكتب البروفيسور الأمريكي جورج ديكي المختص بعلم الجمال والفلسفة والتذوق في مؤلفه «دائرة الفن» عام 1984 ما مفاده، أن ليس هناك معيار جمالي واحد، يحدد قيمة الإنتاج الفني، بتأكيده على مفهوم «السياق» المتعارف عليه تاريخيا وثقافيا، وهذا التعريف يسحب البساط من التعريفات الغربية المعاصرة، ليصبح للمفهوم دائرة ثقافية واجتماعية وتاريخية أوسع، تخرج الفن من الإطار النخبوي ليعبر عن مشترك إنساني أوسع، الفن هنا، يخاطب جمهورا كبيرا، ليس بالضرورة لديه إحاطة شاملة بالعبارات الجاهزة لمفاهيم إنتاج الفنون بحسب النظرية الغربية. كانت العولمة في ثمانينات القرن الفائت، وتدخلاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، قد قطعت الطريق مع كل الأطر المرجعية لأنطولوجيا الفنون، مما أدى لتغييب المعايير الجمالية على شموليتها، فصارت التقاطعات أكثر تعقيدا بين صانعي القرار السياسي والمحلي والعالمي، بما في ذلك السوق الفنية المعولمة، والاستثمارات المؤسساتية والإعلام، كما يشير لذلك الفيلسوف الفرنسي مارك جيمينز، وهو أستاذ في جامعة السوربون، ويدرس علم الجمال في كلية الفنون والعلوم. إن ارتهان الفنون لحسابات السوق العالمية المفتوحة، كان أحد ركائز «مدرسة فرانكفورت الألمانية» في دراساتها النقدية مع تطور المجتمع البرجوازي، ونشوء مؤسسات ذات طابع ثقافي واجتماعي ليبرالي، على الطريقة الأمريكية. بعض النقاد يشير إلى مفهوم «الصناعة الثقافية» أو «الفنية» بوصفه مؤشراً على إفلاس الثقافة المعاصرة، لسقوط الفعل الثقافي في منطق «السلعنة» والذي يُحوّله إلى قيمة تبادلية تقضي على قوته النقدية، وتحرمه من أن يكون أثراً لتجربة إنسانية أصيلة. من المعارض المقترحة في «بينالي 14» واحد بعنوان «رحلة تتخطى المسار»، وهو يطرح سياقاً أعمق للحراك البشري، في صلته بالفنون الشعبية، والطقوس والأساطير التي أنتجت هذه الفنون، في مقابل ما أفرزته العولمة مع تنامي القوة التكنولوجية، وهذه التقاطعات تحث الفنانين المشاركين في المعرض على التنقل واستكشاف تأثير الأجيال على الفنون بعمومها، بوصفها نتاجاً بشرياً شاملاً، والمعرض يسعى إلى تسليط الضوء على ضرورة التنوع البشري وتواشجاته في جميع أنحاء العالم. وهناك معرض «صياغات لزمن جديد»، وهو يدرس مساحة شاسعة من الاحتمالات، التي تعبر عن رؤى فنية لشخصيات وأشكال نابضة بالحياة والتساؤل، حول كيفية اختبار أنفسنا ضمن علاقتنا مع الآخرين. إن «بينالي الشارقة 14» عبر اقتراحاته الجمالية والفكرية، يوسع من دائرة الحوار ويمضي قدما لمعاينة أشكال لا حصر لها من الخبرة الإنسانية والحساسيات المشتركة، ليسجل انتصاراً للفن، الذي يتوخى أن يقدم مقاربات جمالية وفكرية تنتصر للحياة والإنسان.
مشاركة :