قلت للصديق: «لقد كان لافتًا توقيع وثيقة (الأخوة الإنسانية) من قبل بابا الكنيسة الكاثوليكية وشيخ الأزهر، لأنها تبدو كمحاولة جديدة -ضمن محاولات عديدة سابقة - بشأن حوار الأديان والتسامح الديني، توقع على هذا المستوى العالي، حيث اتسمت العلاقة بين ما يسمى اختزالاً بالغرب، وما يسمى بالشرق، بقدر كبير من التوتر، سواء على مستوى ما تختزنه الذاكرة التاريخية من أوجاع وحقائق وأوهام، أو على صعيد العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية الحالية وما يكتنفها من توترات وتقلبات. وجزء من هذه الإشكالية (على الأقل على مستوى الذاكرة) يرتبط بالدين كمكونٍ رئيسيٍ مرجعيٍ للشخصية العربية التي يعتبر الإسلام أحد أهم مقومات هويتها، كما للشخصية الغريبة (تحديدًا الأوروبية) ارتباط كبير بالديانة المسيحية التي تظل عمودا أساسيا من عواميد هوية هذه المجتمعات بالرغم من كل التطورات الحاصلة على مستوى خطابات فصل الدين عن الدولة. ولذلك أرى أن لحظة التوقيع بدت وبشكل واضح لحظة فارقة ومهمة». ردَّ الصديق: «بالفعل فإن الوثيقة سابقة مهمة جديرة بالاحترام والإشادة والتأييد ولو أنها لم تعكس نضجًا ذاتيًا للخبرة الروحية للبشر ولما يعتنقونه من أديان وعقائد بقدر ما جاءت ضربًا من التقارب فرضه صعود اليمين المتطرف في أوروبا خاصة بل وفي أنحاء أخرى من العالم، واستفحال التطرف على الجانبين». ومن هذا المنطلق نتوقف عند 3 جوانب نراها هامة بخصوصها: - أولاً: أن هذه المبادرة ليست نابعة من خبرة تاريخية وتأملية أو ثمرة لحركة إصلاح ديني أو لتشكل تيار روحي تنويري يؤشر إلى دخول البشرية مرحلة جديدة من الاعتقاد ذي الوجه الإنساني، ولكنها جاءت كردة فعل تعكس، لدى قيادة الجانبين، استشعارًا لحجم الخطر الداهم لسحب الكراهية التي أخذت تلبد سماء العالم (بل حتى سماوات دوله) خلال العقود الأخيرة. - ثانيًا: أن المبادرة قرينة صدق لتلك الحقيقة التاريخية التي طمرتها، عبر القرون، الأحقاد والحروب، ألا وهي إمكان التوافق بين الزعامات الدينية والتقارب بين ما يخدمونه من أديان، نظرًا لوجود قاعدة جامعة بينهم وجامعة بينها، وهي وحدة أصل الأديان (السماوية على الأقل). لقد كانت الحكمة دائمًا تقضي بالتركيز المسؤول، لدى الفرقاء، على المشتركات الجامعة. ولقد كان التاريخ دائمًا شاهد صدق، عكسًا وطردًا، على جدوى الأخذ بناصية هذه الحكمة سواء أتعلقت بالدين أم بسواه من شؤون البشر والعالم. وواضح حتى لغير المتأني أن نص الوثيقة مكتوب بعناية لا لمجرد تفادي الاصطلاحات والبلاغات أحادية الإحالة، بل للإفصاح عن المشتركات الاعتقادية (الإيمان) والروحية (الحب) والقيمية (الفضيلة) والوجودية (الخلاص). - ثالثًا: إن هذه الوثيقة اتكأت، بشكل صريح، معجمًا وبلاغة (وروحًا) على خطاب حقوق الإنسان، وبخاصة أيقونته النصية (الإعلان العالمي ذي الصلة). وما هذا بقادح فيها بحد ذاتها بقدر ما يؤشر إلى أن «ضرورة بناء عالم ذي وجه إنساني». هي الخلاصة التي ينتهي إليها البشر كلما ركنوا إلى الحكمة، سواء أكانت البوابة التي ينفذون منها إلى هذه الحكمة دينية أم مدنية أم حتى مجرد خبرة تاريخية مباشرة». قلت متسائلاً: وإن اتفقت معك في مجموع ما طرحت من ملاحظات جوهرية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا السياق، يتعلق بالجانب العقدي في الوثيقة والذي يهاجم بشكل غير مباشر التيارات والاتجاهات الحداثية في الفكر والممارسة، عندما يأتي الحديث عن الحرية والاسرة، أفلا ترى أن الزج بهذا الجانب في وثيقة تتكلم عن الإنسانية، من شأنه شيطنة طرف ثالث غير مذكور هنا صراحة، ولكنه معلوم بعنوانه (العلماني)؟.. قال الصديق: أتفق معك تمامًا في هذا السياق، فالتقارب الذي تعلنه الوثيقة توازى، بصريح نصها، مع تباعد عن بعض الاتجاهات والتحولات والظواهر المعاصرة التي جرى تحميلها شرور العالم والعصر كلها. وإذا كان هذا مقبولاً ومطلوبًا ومنصفًا حين يتعلق بظواهر من قبيل التطرف والإرهاب، فإنه يظل أقل بداهة بكثير حينما يكون المشار إليه، في الوثيقة، تحولات طالت الأسرة أو تفاعلات أعلت من قيمة الفرد أو تطورات عززت من منسوب الحرية.. إلخ، وهي ظواهر كانت، على مدى التاريخ الحديث والمعاصر، مصنفة في خانة الخصوم التقليديين للمؤسسة الدينية (كنيسة كانت أم مسجدًا). وما من شك في أن تقاربا يكون على حساب طرف ثالث تجري «شيطنته» لهو تقارب بنتحل للنفس «طهرية» غير مسلم بها و«براءة» غير مجمع عليها. فلقد وقف الطرفان، طويلاً (ولو منفصلين)، في وجه تطورات حديثة معاصرة جاءت إلى الحياة من خارجهما أي من هذا المرجع العلماني أو الوضعي، ثم ما لبثا -بعد طويل مناهضة (لم تخلُ من تكفير ومقاطعة وتشهير) -أن تقبلاها ونوها بها. وما الديمقراطية وحرية المرأة والمواطنة وحقوق الأقليات، مثلا، إلا عناوين كافية لتذكيرنا بأن الطرف الثالث الغائب والمدان والمشيطن ليس شرًا كما يتم تصويره ضمن هذا المنطق. بل إن مفردات وبلاغة التقارب التي تقدمت الإشارة إليها قد استعيرت، في جلها، من سجلات هذا «الآخر الثالث» الحداثي الوضعي العلماني إن صح التعبير.. لقد تم تعريف الحرية في الوثيقة أنها الأصل والفطرة وأحق الحقوق بعدالة القسمة بين الناس، والمواطنة المتساوية التي جرى التسليم بأنها الإطار الواجب للتعايش بين البشر، والسلام الذي جرى تقديمه، عن حق، بأنه شرط استمرار الحياة والنوع، والكرامة الإنسانية التي أعلن أنها لا تقل قيمة عن منحة الحياة نفسها، كلها أمور تحتاج، وهي الوافدة من خارج النسق الديني (المجال الحقوقي المدني)، تأصيلاً داخل الفكر والخطاب الدينيين حتى يكون التوطين المفهومي، داخلهما، منعرج مراجعة وإعادة هيكلة. قلت: بالفعل فإن الخلاصة التي لم تقلها هذه الوثيقة القيمة هي أن البشرية تحتاج اليوم، وفي ضوء ما امتحنته -قديمًا وحديثًا- من تجارب قاسية باسم الدين، فكرًا دينيًا ذا وجه إنساني. ولأن الوثيقة لم تتأسس على مقدمات لهذه الخلاصة لم تنتهِ إليها ولم تصرح بها، بل لمحت -بلغة الفكر المدني الحقوقي-إلى ما ينبغي الأخذ به للوقوف، مستقبلاً، في وجه ما يقترف باسم الدين من أخطاء وخطايا. لذلك وجدتني أرحب بهذه الوثيقة ترحيبًا يساوره قلق من التناقضات الدفينة طي ثناياها. والأمل معقود أن تكون هذه المبادرة، رغم هذه الملاحظات، خطوة على طريق تحول البشرية إلى مرحلة التدين ذي الوجه الإنساني.. فوحدها النظرة التاريخية في بعدها الإنساني، يمكنها أن تعيد الاعتبار لعالم التضامن والتآخي والتعاون بين بني البشر في لحظة تجردهم من الطوائف والعقائد إلا مما هو إنساني منها، ووحدها هذه النظرة يمكنها أن توصل فكرنا إلى مواجهة تحديات الحداثة والعصر باستثمار العلاقات الكونية الجديدة والمتاحة أمامنا لتحقيق النهضة المتعثرة بالقبول بالإنجازات التحررية الحداثية بعيداً عن تضخيم المخيال المتعلق بالاحتماء بالذاكرة، وبالعزلة والانكفاء على الذات.
مشاركة :