إن كان ينبغي أن نستبقي في الذاكرة حدثاً من الأحداث البارزة التي جدت في القرن العشرين فلن يكون إلا يوم الثاني والعشرين من شهر أبريل سنة 1915، وهو اليوم الذي استُعمل فيه لأول مرة في تاريخ الحروب غازُ الكلور على نطاق واسع، بوصفه سلاحاً من أسلحة الحرب، استخدمته «كتيبة الغاز» من الجيوش الألمانية في الجبهة الشرقية ضد المواقع الفرنسية الكندية المتمركزة في «ذراع إيبرس» coudée d’Ypres بالشمال الشرقي البلجيكي. فقد أطلقت في ذلك اليوم حوالي 150 طناً من غاز الكلور كونت سحباً انتشرت على مسافة ستة كيلومترات على مستوى العرض ومن ستة إلى تسعة آلاف في العمق، أسفرت في النهاية عن اختناق خمسة عشر ألف جندي وموت خمسة آلاف بأضرار جسيمة في الجهاز التنفسي. تعود أهمية هذا الحدث إلى تغيّر النظرة إلى العدو الذي لم يعد ذاك الذي ينبغي القضاء عليه برصاص البنادق أو طلقات المدافع أو طعنات السيوف والخناجر، فهذا التصور قد تجاوزته الأحداث لأن هدف الحرب قد أضحى بيئة العدو لا جسده. فشعار الحروب منذ ذلك اليوم من أيام الحرب العالمية الأولى إلى الحروب الآتية التي يمكن أن تنشب في القرن الحادي والعشرين تنهض على هذا المبدأ الذي صاغه «شايلوك» في مسرحية شكسبير «تاجر البندقية» في عبارة تنبئية قائلا: «إنكم ... تأخذون حياتي إذا أخذتم مني الأسباب التي بها أتمكن من العيش» (الفصل الرابع، المشهد الأول). وهي صياغة توجز حقاً مفهوم الإرهاب الذي كانت الدول العظمى سبّاقة في تنفيذه على أرض الواقع، وذلك بنقل عمل الحرب المدمرة من الجهاز (وهو جسد العدو الطبيعي الملموس) إلى البيئة (وهو المناخ الذي يعيش فيه جسد العدو الخاضع لضرورة التنفس). فالإرهاب هو في جوهره اغتيال، هذا إذا فهمنا من هذا العمل ضربَ العدو من الخلف غيلة وعلى حين غرة وبالحيلة، وذلك باستغلال عادات الضحية الحيوية. فشروط البشر الحيوية قد أدمجت في كل الهجمات الموجهة ضدهم، بحيث تصبح عادة التنفس الضرورية عاملاً من عوامل تدميرهم الشامل، في محيط خانق لا يمكن تنفس هوائه السام. الإبادة الشاملة ويبدو أن فكرة إبادة العدو الشاملة قد ترسخت في الثقافة الحربية الحديثة. ففي ليلتي 13 و14 فبراير 1945، تاريخ الهجوم على المدينة الألمانية دراسد Dresde، ألقيت في وسط تلك المدينة، في مناطقها المكتظة باللاجئين المحيطة بمحطة القطار المركزية، حوالي ستمائة وخمسين ألف قنبلة، أي ما يساوي ألفا وخمسمائة طن من القنابل المفخخة والمتفجرة تناثرت على أرجاء المدينة كالمطر. ويدل ارتفاع نسبة القنابل الحارقة على أن الهدف الأول هو تدمير المناطق العامرة بالسكان والقضاء على الحياة المدنية. وكان المهاجمون من القوات الجوية البريطانية وأسراب الطائرات الأميركية يعلمون حق العلم أن نجاح أفكارهم على أرض الواقع، إن نُفِذت وفقاً لمخططاتهم، سيتسبب في القضاء على عدد مرتفع من سكان المدينة المكتظة باللاجئين. وكانت الغايةُ من إلقاء ذلك الكم الهائل من القنابل الحارقة تحويلَ وسط مدينة دراسد إلى فرن ذي حرارة عالية جداً. وقد بينت النتائج الكارثية نجاح هذا المخطط. فقد عُثر في الكثير من المخابئ الأرضية المضادة للهجمات الجوية على الآلاف من المختبئين لم تمسسهم النيران، ولكنهم قد تحولوا بفعل الحرارة المرتفعة إلى أجساد متفحمة. وفي بعض المخابئ تحت الأرض عُثِر على اثني عشر ألف جثة مختنقة بالغازات السامة المنبثقة من الحرائق، أو مسلوقة بسبب جحيم الحرارة الذي حول تلك المخابئ إلى فخاخ في شكل أفران انغلقت على من كان فيها. والنتيجة التي أسفرت عليها تلك الهجمات الجوية هي القضاء على أكثر من أربعين ألف شخص ماتوا محترقين أو متفحمين أو مختنقين أو متجففين. وهي نتيجة تدل على تجديد في مجال الإبادة الشاملة تميز بسرعته وكثافته. وبذلك أصبح الهجوم على مدينة دراسد الطراز الجديد للإرهاب الحراري في العالم. فما حدث في ذلك الهجوم هو اتساع حجم الهجمات الإرهابية باستخدام شروط الحياة الحرارية القصوى ضد العدو. ولكن تبين في الآن نفسه أن كينونة الإنسان هنا في العالم لا يمكن أن تصبح ضرباً من الوجود في النار. وقد تأكد ذلك على نحو صريح يومي 6 ثم 9 من شهر أغسطس سنة 1945، وهو تاريخ إلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما ثم ناكازاكي باليابان. ولئن بدا الهجوم على المدينتين، إن قورن بالهجوم على دراسد، نوعاً من المزايدة الكمية في عدد الضحايا الذي تجاوز في الهجوم الأول أكثر من مائة ألف نسمة، ثم أكثر من أربعين ألف نسمة في الهجوم الثاني، فإنه في واقع الأمر قد دشن طوراً جديداً من تاريخ الحروب الإرهابية، انتُقِل فيه من الإرهاب الحراري إلى الإرهاب الذري أو النووي. وهو إرهاب لا مرئي يتمثل في تسريب كمية من الإشعاعات الذرية القاتلة من آثارها المرئية الأولى التي يمكن ملاحظتها هو تساقط جلد الإنسان وتناثره في قطع محترقة كما لو أن حريقاً غير مرئي قد شب في جسده. ومعنى ذلك أن الإرهاب النووي قد أقحم في حسابه بعد اللامنتهي في الصغر، وهو الذرة آنذاك، محولاً إياه إلى سلاح يهدد محيط العدو الحيوي بهجمات لا مرئية. ويبدو أن استغلال المحيط في الحروب الإرهابية قد انتقل من الذرة إلى البكتيريا لما صممت سنة 1982 و1983 قنابل تحمل بكتيريا حمى الأرانب tularémie ألقيت في جزيرة من بحيرة آرال Le lac Aral الواقعة بين كزاخستان وشمال أوزباكستان، على المئات من القردة استوردوا خصيصاً من إفريقيا. وكانت نتيجة التجربة موت أغلبية الحيوانات برغم تلقيحهم الجيد من كل الأمراض، إثر استنشاقهم للعنصر البكتيري الناشر للمرض. الخيال الحربي ولم يتخلص الخيال الحربي الغربي الأميركي من ثقافة الهلع. ففي 17 يونيو 1996 سُمح بنشر وثيقة حساسة عنوانها «المناخ بوصفه مضاعفاً من قوة المعركة: التحكم في المناخ في سنة 2025» عرض فيها سبعة ضباط من قسم البحوث في البنتاغون ملامح حرب المستقبل. وهي تتعلق بالشروط التي بمقتضاها يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تتأكد من هيمنتها الجوية العسكرية المطلقة في 2025. ويرى أصحاب هذه الوثيقة أنه خلال ثلاثين سنة سيُتَوَصل إلى التحكم في الغلاف الأيوني ionosphère، بوصفه مكوناً لا مرئياً من مكونات الغلافات الأرضية الطبيعية الخارجية، ومن ثَمَ استخدامه لأغراض عسكرية، وذلك بخلق ظروف مناخية مضطربة أو إزالتها على نحو يضمن لمن يمتلك سلاح الغلاف الأيوني السيطرة الساحقة على ساحة الحرب. فسلاح المناخ يحوي من جملة ما يحويه التحكم في وضوح الرؤية في الفضاء الجوي أو اضطرابها، وتسخير قوة الأعاصير بإنقاص سرعتها أو مضاعفتها، وحبس نزول الأمطار في مناطق العدو والتسبب في جفاف اصطناعي، واستقبال اتصالات العدو وحجزها، ثم التصدي للعدو ومنعه من القيام بعمليات مماثلة على المناخ. وقد اعتبر محررو هذه الوثيقة الخاصة بحروب المناخ في خلاصتها أنه طالما وُجد في المجتمع عناصر ترفض بعناد مناقشة مواضيع مثل التحكم في المناخ فإن الإمكانات العسكرية الجبارة التي تكمن في هذا المجال ستظل مجهولة. ويمثل هذا الجهل في نظرهم منبع خطر. ويستشف من موقفهم هذا ميلهم إلى اختراع مثل هذا الصنف من الأسلحة حتى وإن عارضه الرأي العام الأميركي. والدليل على ذلك أن الولايات المتحدة لم تقتصر على الاهتمام بالسلاح المناخي وإنما شرعت منذ 1993 في الاشتغال عليه من خلال «برنامج البحث المتعلق بالشفق النشيط ذي التردد العالي» High Frequency Active Auroral Research Program (HAARP). ويهدف هذا البرنامج إلى دراسة طبقة في الأجواء يتحدد علوها بين سبعين وألف كيلومتر، من خصائصها أنها بالغة التعقيد وشديدة التغيّر بتأثير من النشاط الشمسي. فالغلاف الأيوني ينهض بدور مهم في انتشار الموجات الإشعاعية الهرتزية أو الكهرومغناطيسية. وقد استخدم مشروع البحث محطة إرسال ذات تردد عال سنة 1993 يسمح، مع أدوات المعاينة التي ترافقه، بأن يسبر على نحو فعال وموجه مناطق معينة دقيقة من الغلاف الأيوني. وقد مول الجيش الأميركي (القوات الجوية والمارينز) هذا المشروع في البداية وطبقه في مجال الاتصاليات، إلا أنه قرر إيقاف البحوث سنة 2014. ولكنه تواصل مع المعهد الجيوفيزيائي بجامعة ألاسكا. وقد سعى أنصار هذا المشروع إلى إبراز بعده المدني ومزاياه العديدة كإعادة بناء طبقة الأوزون، واستشعار هبوب الأعاصير. غير أن قلّة من نقاد هذا المشروع رأوا في هذا النوع من المعلومات طريقة معهودة في إخفاء المشاريع العسكرية الشديدة السرية. فمشروع (HAARP) يستند إلى مركز دراسات عملاق بغاكونا في جنوب وسط ألاسكا. وهو متكون من عدد عظيم من الهوائيات التي تنتج حقولا كهرومغناطيسية ذات طاقة عالية ومشعة في الغلاف الأيوني. ويمكن لتأثيرها الانعكاسي ورنينها أن يستخدم في تكثيف حقول الطاقة هذه وتركيز قوتها في أي نقطة على وجه الأرض. فإرسال مثل هذا النوع من الأشعة يمكنه أن ينتج مدفعية ذات طاقة لا محدودة. وعموماً فإن الإمكانات العسكرية الرهيبة لهذا السلاح الموجه للطاقة من شأنها أن تتسبب في إحداث تأثيرات طبيعية هائلة تصل إلى حد انفجار الكوارث الطبيعية والزلازل الأرضية في مناطق مختارة ومستهدفة. وإن كان بالإمكان اعتبار مثل هذه المشاريع سريالية فإنها لم تعد كذلك شأنها شأن سلاح الغاز سنة 1915 والسلاح الذري سنة 1945 اللذين اعتبرا آنذاك عند رجال الغرب نوعاً من السحر قد تنكر بقناع علوم الطبيعة، وذلك قبل أن يثبت محك الأحداث وجودهما الخطر. ولكن إن بدت الحرب عند هؤلاء الخبراء هي الحل الأنسب للقضاء على الإرهاب أو مقاومة الدول المارقة التي تسانده، فإنهم في الواقع عندما يرفعون شعار «الحرب ضد الإرهاب» إنما يعربون عن ثقافتهم الحربية الجديدة ذات البعد البيوسياسي. ففي هذا السياق فحسب أمكن الترويج لفائدة سلاح المستقبل المناخي وتطوير الممارسات الإرهابية المناخية على نحو يصعب مراقبته. ولإضفاء الشرعية الديمقراطية على هذا النوع من الإرهاب وجب افتراض صورة جديدة للعدو تقلبه إلى مجرم إرهابي، أو محارب غير شرعي، وهو ما يقتضي، لإيقافه أو القضاء عليه، استعمال هذا النوع المناسب من الأسلحة الذي يستعمل الغلاف الأيوني على نحو خاص. إن هذه المعادلة الغريبة التي تجعل من صورة العدو المثيرة للهلع ذريعة لابتكار أخطر أسلحة الإبادة الشاملة لتكشف في واقع الأمر عن ثقافة من نوع خاص وجب تعريفها على النحو الذي اقترحه منظر الثقافات الألماني هاينر مولمان Heiner Mühlmann، بوصفها حيواناً وحشياً يجب تدجينه، قد تحكم في عيشه قانون الإجهاد النفسي stress المستمر، في دولة تستعد للحرب على نحو دائم. وإذا صح هذا التعريف فإن حروب المستقبل الآتية ستكون محكومة بهذا القانون، كلما قويت حدة الإجهاد النفسي عند الشعوب دقت طبول الحرب على نحو يُخشى أن تكون الدقات الأخيرة في حياة البشر.
مشاركة :