صناعة الجهل وسياسة القطيع

  • 3/1/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

"العلم للجميع"، شعار رنان لطالما سمعناه وصدقناه، لكن بعد بحث ودراسة تبين أن العلم ليس للجميع، وتبين أيضاً أننا محاطون بكم هائل من الشعارات البراقة التي تسيطر على عقولنا، إلى أن أصبح تقريباً من المستحيل الفكاك منها، أو حتى غض الطرف عنها، ولو لوهلة. فجميع فروع العلوم ليست مطروحة للجميع؛ لوجود عالم سري موازي يتداول فيه علوم تم وسمها بخاتم "علوم سرية". وأحد فروع هذه العلوم السرية هو "علم صناعة الجهل Agnatology، وبالرغم من أن هذا المصطلح ليس بالحديث، لكن بدأ تركيز الضوء عليه في السنوات القليلة الماضية، وبشكل محدود. فلقد ظهر ذاك المصطلح في ثمانينيات القرن الماضي، وكان السبب في ظهوره عندما تم كشف اللثام عن مذكرة سرية عام 1979 قامت بصياغتها إحدى الشركات المنتجة للدخان عام 1969 وتدعى شركة براون ووليامسون للدخان (Brown & Williamson Tobacco Company) إبان تزايد الدعوات المناهضة للتدخين، والتي أيضاً تروج لأخطار التدخين وأثره السلبي العاجل العواقب على الصحة. ولقد ذكرت شركة الدخان تلك في مذكرتها التي أطلقت عليها اسم "مقترح التدخين والصحة" أن أفضل طريقة لترويج تدخين السجائر هو خلق حالة من الشك بين جمهور المدخنين، وبذلك يمكن التغلب على المفاهيم الراسخة بالعقل والذاكرة والتي تؤكد جميعاً أضرار التدخين". وبالتأكيد، أعترف أن شركة الدخان تلك نجحت في استراتيجيتها تماماً؛ والدليل، أن جمهور المدخنين في تزايد مستمر، وخاصة في دول العالم الثالث، وعلى مستوى جمهور الشباب على الصعيد العالمي. وبعد هذا الكشف المثير، تحمس المؤرخ العلمي روبرت بروكتور لمعرفة المزيد عن ذاك المفهوم، وبدأ ينقب في جذور استراتيجيات وممارسات شركات الدخان، محاولاً أن يفهم كيف تحدث شركات الدخان حالة من البلبلة بين جمهور المدخنين؛ للترويج لمعلومات مضللة تحجب بها حقيقة أن التدخين يسبب الإصابة بمرض السرطان. فشركات الدخان تعمل على زعزعة المفاهيم الراسخة عن الصحة وأضرار التدخين في عقول جمهور المدخنين، مما يجعلهم يسمعون عن الأضرار ويستمرون في التدخين، وذلك من خلال اختلاق حالة من الشك توضح أن ليس بالضروري كل مدخن قد تطاله أضرار التدخين، فهناك دوماً ناجون نسبتهم تفوق المصابون. وأفضل مثال لذلك هو كتابة تحذير صريح على علب السجائر، وكذلك تزويده بصورة بشعة لتوضيح أن التدخين يسبب السرطان والوفاة، لكن تلك المعلومات الحقيقية صارت لا قيمة لها؛ بسبب أن حالة الشك المختلقة جعلت جمهور المدخنين ينقسمون فيما بينهم إلى فريقين، أحدهما، لا يصدق ذاك التحذير، والآخر لا يلقي له بالاً. وبناء على ذلك، يمكن تعريف صناعة التجهيل بأنها الدراسة التي تعنى بدراسة الأفعال التي تعمد لنشر الارتباك والخداع، والتي يتم اللجوء إليها عادة لبيع منتج ما، أو لنيل حظوة لدى شخص أو مؤسسة. والغريب والطريف أيضاُ في الوقت نفسه، أن المؤرخ العلمي روبرت بروكتور قد دعا جمهور العلماء والمثقفين لإلقاء مزيداً من الضوء على هذا العلم السري وغيره من العلوم السرية، لكن، دعوته لم تحظ بكم الانتباه المتوقع الذي قد يجعل من هذا الكشف المثير قضية رأي عام عالمية. وقد يكون التفسير المنطقي لهذا أن صناعة التجهيل بالفعل علم سري قائم يتم استخدامه بصورة مكثفة للسيطرة على عقول وأفعال الشعوب. وبالتأكيد، من أهم وسائل نشر صناعة التجهيل على الصعيد العالمي شبكات الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي جمعاء، والتي تجتمع جميعاً على نشر حالة من "عدم المعرفة" الناجمة عن إتاحة معلومات متضاربة تصير مثيرة للجدل وتعمل على تأصيل حالة من الشك في اللاوعي. ومن أهم الأطراف المستفيدة من حالة التجهيل المتعمد تلك هي: رجال الاقتصاد، والساسة. ومثال لذلك، البرامج الحوارية التي تطرح قضايا مثيرة للجدل وتستضيف متخصصين ينقسمون فيما بينهم بين مؤيد ومعارض لقضايا شائكة. ودون شك، لا يعلق في ذهن العامة إلا الآراء المعارضة، التي يتلقفها الشباب والمراهقين بعين الشغف، لأنهم يجدون فيما كل هو غريب ومخالف أسلوب للتعبير عن الذات، ولتوكيد وجودهم بالمجتمع. مع ملاحظة أن، إذا كانت تلك القضايا تنتمي لعالم السياسة، فإنها تسهل مهمة الحاكم؛ حيث أنه يربي جيلاً من الخانعين الذين يقبلون بالآراء التي يتم زجها لهم، لأن عقولهم قد ترسخت بها فكرة أن تلك المفاهيم المغلوطة هي عين الصواب. أما في عالم الاقتصاد، ففي حال نشر معلومات مغلوطة تسبب البلبلة بين جمهور المستهلكين، فإن الغرض الرئيسي منها هو زيادة نسبة المبيعات، وتحقيق شهرة واسعة لعلامة تجارية دون اللجوء لعمل إعلانات باهظة التكاليف. وعلى هذا، يصير "الجهل قوة"، على عكس المتعارف عليه بأن "المعرفة قوة"، فالجهل يصنع حالة من التجهيل التي تسهل لمن ينشرون المعلومات المغلوطة أن يسوقوا أفراد المجتمع كالقطيع الخانع. ويجب أن نلفت النظر إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت عامة تساعد على نشر الجهل، فالإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي هو المكان الذي تتاح فيه الفرصة للجميع بأن يصيروا خبراء، ويتوهمون حينئذ بأنهم من يقبضون على زمام الأمور، مما يجعل منهم فريسة سائغة لأصحاب النفوذ والمصالح الذين يعمدون لنشر الجهل. ومن خلال استراتيجية التجهيل، يمكن بسهولة ضرب قيم المجتمع. فمثلاً، أغاني المهرجانات وأفلام محمد رمضان مثالان نابضان لتعمد تجهيل الشعوب، ويلاحظ أن تلك الأغاني والأفلام تعد من التابوهات بالنسبة لأجيال التي تربت على الطرب الأصيل، أو التي تربت أن تمج أفلام العنف والبلطجة. لكن مع تكرار الزج بتلك الأغاني والافلام، يلاحظ أن جمهور الشباب يبدأ في أن يستسيغ هذا التيار الناشئ من الأغاني والأفلام، وكذلك يتخذ من المفاهيم والأبطال المشتركة في العمل الفني نبراساً ونموذجا يحتذى به. أما جمهور الرافضين لهذه الأعمال، فمع كثرة التكرار، لسوف يتولد لديهم الشك في آرائهم الرافضة. وبسبب إقبال الشباب على هذه الألوان، يتحول المعارضون تدريجيا إلى مؤيدين بزريعة أنهم يسايرون روح العصر. ومن ثم، تنحط القيم، وتضرب التقاليد في مقتل. استراتيجية التجهيل وغيرها من الظواهر التي بات تفسيرها ليس باليسير هي فروع من العلوم السرية الذي يحاول البعض التنقيب عنها، لكن يتم كبت هذه الأصوات حتى تموت الفكرة قهراً في مهدها. فالانسياق وراء كل ما هو حديث ليس مسايرة للعصر، وكذلك هو الحال بالنسبة للتمسك بالقديم. يجب نشر العلم والوعي لقهر استراتيجية التجهيل.

مشاركة :