حين انتهى سنان أنطون من كتابة «وحدها شجرة الرمان»، اشتاق الى شخصياتها وشعر بكآبة وفراغ. بدأ يترجمها الى الإنكليزية بعد خمسة أشهر، ونالت الترجمة الصادرة بعنوان «غاسل الموتى»، جائزة سيف غباش- بانيبال للترجمة لعام 2014. تسلّمها أمس الخميس في لندن، وكانت «بانيبال»، مجلة الأدب العربي الصادرة بالإنكليزية، نظّمت أمسية في مكتبة ووترسونز تحدّث فيها الكاتب العراقي، وقرأ من الترجمة الإنكليزية. حاوره الكاتب والإعلامي بول بليزارد، أحد أعضاء لجنة الحكم، ورافقه على العود خيام اللامي. بطل «وحدها شجرة الرمان» أو «غاسل الموتى»، طالب نحت شيعي يرفض المهنة التي توارثتها العائلة، ثم يضطر الى غسل جثث الموتى بعد اندلاع الحرب. يهجر الدراسة، ويحدّق في الوجوه التي يراها في الشارع، متسائلاً أياً من أصحابها سينتهي أمامه ليغسله ويكفّنه. ينفر جواد العلماني من الفرز الطائفي في البلاد، ويُصعق حين يجد نفسه أمام جسد قُصّ بالمنشار، أو رأس بلا جسد هو كل ما حصل عليه الأهل من ولدهم المختطف بعد دفع الفدية كاملة. يخسر الحب مرتين: ريم بعد إصابتها بالسرطان، ثم غيداء قريبته التي تهاجر مع أسرتها. لكنه يكمل حياته وسط الدمار، ويستفيق يومياً ليواجه الرعب مجدّداً و»يستمر في الحياة على رغم البشاعات» كما قال أنطون، الأستاذ المشارك في قسم الأدب العربي في جامعة نيويورك. في لقاء مع «الحياة»، قال إنه بقي أميناً في ترجمته، وإن أحسّ بحرية أكبر لأنه الكاتب والمترجم معاً. اكتفى بحذف بضع عبارات من الحوار، لأنه أحسّ أنه يعرف الشخصيات الى درجة يدرك معها أنها لن تقولها بالإنكليزية. الترجمة إعادة صياغة وكتابة، لكنه كان راضياً وكاد لا يحتاج الى التغيير. كان الدافع الى الترجمة أنانياً، أشبع ميله المازوشي الى العيش ثانية مع واقع شخصياته الأليم. بذل جهداً إبداعياً وعاطفياً، لأن الشخصيات والأحداث بدت حقيقية له. ترجمها بنفسه لا لاعتقاده أنه مترجم أفضل، بل لتورّطه العاطفي وخصوصية البعد الإسلامي فيها.»أحسست أنني أفضل من يوفّر الهرب للشخصيات وينقذها من الغرق». بعد ترجمة «وحدها شجرة الرمان» الى الفرنسية، تتَرجم اليوم الى التركية والبولونية ولغة الماليالم في الهند، كما تحوّلها نايومي ووليس نصاً مسرحياً في أميركا. عن ميل كُتّاب الحرب الى اختزالها بالدمار الكامل لعالم شخصياتها، قال أنطون إن تقديم الأمل ليس من واجبات الروائي. يحب الكاتب الباسم الروايات الحزينة، ولا تخرج نهايات سعيدة من قلمه بكل بساطة. في الرواية حب وفرح وتواصل إنساني، وجواد يواجه البشاعات بالنهوض كل صباح والاستمرار في العمل وأداء واجبه نحو مجتمعه. حلم بأن يكون فناناً، لكن التاريخ حطّم أحلامه. ليس فاشلاً أو ضعيفاً، وهو يتعامل استثنائياً مع الحرب وأشكال الموت والجثث فيه، ويكمن الأمل في تصميمه على الاستمرار. كثرة الأفلام الأميركية التي تدور حول العراق، لا تعني يقظة ضمير أو دعوة الى المراجعة والمحاسبة. الجندي الأميركي هو الضحية فيها، وإن حضر المدني العراقي فلكي يكون إرهابياً فقط. لا يفهم الأميركيون محنة المسيحيين في الشرق، ويرتبط ادعاؤهم الاهتمام بالأقليات بأسطورة المخلّص الزائفة لديهم. الأجدى إنقاذهم الأقليّة السوداء في بلادهم قبل تظاهرهم بالحرص على أقليّات غيرهم. لا يعتبر نفسه عراقياً- أميركياً بل عراقياً مقيماً في أميركا على رغم أن والدته أميركية. كانت أجادت العربية حين وُلد، وكان الأصغر بين الأولاد الثلاثة. اعتُبر نصف أميركي في العراق، واكتشف بعد هجرته الى الولايات المتحدة في أوائل التسعينات أنه ليس كذلك. كان في الثالثة والعشرين، يملك لغته وتركيبته، وبقي غريباً، ولا مشكلة في ذلك. ستون في المئة من أهل نيويورك لم يولدوا فيها، والاستثناء ألا يشعر المرء فيها بغربة. تفضّل دور النشر الكبرى في أميركا، الصورة النمطية للشعوب الأخرى، وتنفر من الأعمال التي تعيد النظر فيها، على أن القيمة الأدبية للأعمال التي تترجمها ليست رفيعة غالباً. في المقابل، يهتم عدد كبير من دور النشر الصغرى بالتجريب والترجمة، ويخاطر بإصدار عمل مختلف يصدم القارئ. خريطة الأدب العربي المترجم الذي يضخّم ويضيء أسماء وأعمالاً غير مستحقة، لا تشبه خريطة الأدب العربي في العالم العربي. تترجم كتب فلان وفلانة ولا تترجم أعمال عبدالرحمن منيف مثلاً. يشكّل الأدب المترجم في أميركا ثلاثة في المئة فقط مقابل خمسين في المئة في ألمانيا. الكتابة بلغات الغرب تفتح أسواقه، وربما كمنت عقلية الجزيرة خلف النفور من الأدب المترجم. حتى الأفلام الأجنبية المترجمة، تتضاءل اليوم في الولايات المتحدة. ربيع علم الدين لا يلعب لعبة السوق بالضرورة، وهو مثال على الأدب الجيد بعيداً من الاستشراق الذاتي والتبسيط. في أمسية «ووترستونز» التي حضرها عدد كبير من العرب وغيرهم، ذكر سنان أنطون أن متابعة الأحداث في العراق أصابته بالقرحة وارتفاع ضغط الدم. فكرة «وحدها شجرة الرمان»، خطرت له حين قرأ في «الحياة» عن غاسل موتى عراقي صدمته الحرب ورغب في الهجرة لكي لا يرث ابنه مهنته. بكى أنطون، وعرف أنه سيكتب عن غاسل موتى. عجب لماذا لم يكتب أحد قبله عنه، وبدأ يقرأ عن الشيعة، ويقابل بعض أهل المهنة الذين أشاروا الى الزيادة الكبيرة في عدد الأموات وطرق موتهم العنيفة. تهيّب الموضوع كونه مسيحياً، لكنه هجس بالفكرة وقدرة الغاسلين على النهوض يومياً لمتابعة عملهم. كيف يستطيع شخص علماني مثل جواد، التعاطي مع مجتمع ديني يتطرّف باطّراد من دون أن يفقد سلامته العقلية؟ كيف يبقى بشرياً ولا يتحوّل الى إنسان آلي؟ الجواب في إحساسه بمسؤولية أخلاقية تجاه الراحلين.
مشاركة :