أي نوع من العقول نحتاج في المستقبل؟

  • 3/3/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

جميعنا يعلم أننا في العالم العربي نسير نحو المستقبل ببركة الله سبحانه بمعنى أننا لا نخطط ولا نعرف إلى أين نسير، فالأمواج تأخذنا وتسير بنا، فتارة نذهب مع الأمواج إلى اليمين وتارة إلى اليسار، وتارة نغرق وأخرى نعلو فوق الموج، ولكننا دائمًا نسير من غير دليل ولا مرشد، والمهم أننا نسير. إلا أن المستقبل لا يحتاج إلى هذا النوع من اللا مبالاة واللا مسؤولية، فالمستقبل يكتنفه الغموض وخاصة فما يخص مستقبل الأجيال القادمة، وبالتحديد في ظل المناخات الاقتصادية الصعبة، فالدول العربية كلها ومن غير استثناء ما زالت تتفرج على الأحداث التي تجري على الساحة الدولية، ومن غير أي منهجية للتغيير أو نظرة موضوعية للمستقبل، فالمناهج الدراسية هي هي، والتخطيط الاقتصادي مربوط بأسعار النفط والذهب العالمية، والسياحة مرهونة بالأمزجة، والحياة الاجتماعية مخنوقة بالاقتصاد، وهكذا، إلا أن هذا لا يمنع أبدًا أن نسمع بين الفينة والأخرى العديد من الأصوات التي تدعو إلى العقلانية والتخطيط سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الدولة. لذلك ظهرت في الآونة الأخيرة العديد من الدراسات التي تدعو إلى إعادة التفكير في المستقبل الذي نحن ذاهبون إليه، وكان السؤال الأكثر تداولا بين هؤلاء المفكرين هو ماذا أعددنا للمستقبل؟ كيف سندخل المستقبل؟ وما العقول العربية التي ستسير وفق معطيات المستقبل؟ وهل نحن أو أجيالنا القادمة على استعداد للدخول للمستقبل؟ كان هذا السؤال يراودني وأنا أناقش العديد من الإخوة المفكرين سواء في البحرين أو خارج البحرين وللأسف لم أجد الإجابة التي تقر بها نفسي، إذ إن الأمور تسير وفق معطيات القرن الماضي فحسب. ولكن في الآونة الأخيرة وقع بين يدي كتاب بعنوان: العقول الخمسة من أجل المستقبل للكاتب (هوارد غارديز) الكتاب مترجم ومطبوع لصالح مكتبة العبيكان، وربما أتفق مع الكتاب في بعض الأمور أو أختلف معه في أمور أخرى، إلا أنني أعتقد أن المؤلف أصاب حينما وضع خمسة أنواع من العقول التي نحتاج إليها في المستقبل، إلا أنني أختلف معه في بعض الأمور التفصيلية التي لا أود ذكرها، ولكن إنصافًا للحق فإني سوف أستعين بأنماط العقول الخمسة التي ذكرت في الكتاب مع ذكر التفسير والأمثلة من واقع الحياة التي نعيشها، وسوف أضيف إليها أربعة أنواع أخرى من العقول التي أجد أننا نحتاج إليها في الوطن العربي بشدة. أولاً: العقل المتخصص؛ التخصص ببساطة يعني أن يختص فرد بالقيام بعملٍ مُعين من دون غيره، وأن يوفر له الوقت والجهد، ويقال في اللغة العربية تخصص بالشيء أي أنه اقتصر عمله عليه، وخصه من دون غيره بالبحث والاهتمام والفعل. وفي عصرنا الحالي حيث كثرت فروع العلوم وتشعبت أصبح من الصعب الإلمام بالعديد من الجوانب المتشعبة، فالعلم الواحد تفرع إلى عدة تفريعات، وتلك التفريعات تفرعت أيضًا، وهكذا حتى أصبحت التفريعات كثيرة ومتعمقة بحيث يصعب على الأفراد الإلمام بكل تلك التفريعات الدقيقة، لذلك أصبح من مصلحة الجميع والدول، خاصة ونحن في عصر العلم والتكنولوجيا أن يتخصص الأفراد، فلا يمكن اليوم أن يدرس الطالب علوم الأحياء هكذا مجردة أو الكيمياء أو الفيزياء أو الرياضيات، يا ترى ماذا سيكون مستقبل هؤلاء خاصة في ظل التغيرات الكونية التي تجري في عصر العلم والتكنولوجيا، هل نريد تخريجهم كمعلمين فقط، إذن لماذا لا يدرس التربية مع هذا التخصص؟ وإن كنا نتحدث عن التخصص والعقل المتخصص فنحن نتحدث عن مهارة الاتقان والجودة التي سوف يتمتع بها الفرد من تفرده في التخصص الدقيق الذي اختاره، نتحدث عن اكتشافات علمية وحقول من العلم لم تطأها قدم إنسان، نتحدث عن أفراد يمكنهم إدارة مؤسسات تنافس الأسواق العالمية وتسهم في زيادة مستوى الإنتاجية والربحية، وتعزيز وجودها في السوق، ودخول المنافسة الحقيقية، نتحدث عن أمور عديدة يمكن من خلالها أن نعبر للمستقبل بثقة وجدارة، لذلك يمكننا أن نقول إننا في العالم العربي نحتاج إلى كل التخصصات الدقيقة الموجودة في العالم، حتى يمكننا أن ننافس ونتحدث. ثانيا: العقل التركيبي: هو العقل الذي يستطيع أن يجمع بين العديد من الأمور المتناقضة ويصنع منها شيئا واحدا مكتملا. هذا العقل هو الذي ابتكر الهواتف الذكية النقالة، فقد جمع بين فكرة الحاسوب الشخصي والهاتف العادي، فقام بدمج هذين الجهازين في جهاز واحد فابتكر الهاتف المحمول الذكي. هذا النوع من العقول أو هؤلاء البشر الذين يمتلكون هذا النوع من التفكير ينظرون إلى الأمور بمنظار واسع، ويحاولون أن يدرسوا العلاقة القائمة بين الأمور، فهم لا ينظرون إلى المشكلة – إن كنا نتحدث هنا عن مشكلة – أو ابتكار أو أي أمر كان بمنظار ضيق، وإنما ينظرون – في البداية – إلى المشكلة أو الأمور من دون التفكير في حلها، وإنما في طريقة تكوينها، في العلاقات القائمة بينها أو التي يمكن أن تكون، في فعالية النتيجة وكفاءتها. ونحن جميعًا نعرف أن الفاعلية تهدف إلى عمل الشيء الصحيح، أما الكفاءة فتهدف إلى عمل الشيء بطريقة صحيحة، والخلط بين المفهومين يتخلل عمليات اتخاذ القرار مؤديا إلى أن تكون الوسائل مبررة بالأهداف، لا العكس، لذلك فإن متخذي القرار في الوطن العربي لا يرغبون كثيرًا في مثل هذه النوعية من العقول لأن متخذ القرار دائمًا يميل إلى الفصل بين الفاعلية ومفهوم الكفاءة. وبحسب راسل أكوف، فإن تنفيذ القرار الخاطئ بطريقة صحيحة أشد خطرًا من تنفيذ القرار الصحيح بشكل خاطئ، ولكن في الوطن العربي كل الأمور سواء. وباختصار، فإن العقل التركيبي هو الذي لديه القدرة على المزج بين الأفكار، سواء الأفكار القديمة والأفكار الجديدة، والنظريات الإدارية والإبداعات الفكرية الحديثة في الإدارة، والتخصصات العلمية القديمة والتخصصات الحديثة، ثم يصنع من كل تلك المواد أو الأفكار نتائج بديعة مبتكرة، تستفيد منها البشرية، لذلك دائمًا يمكنه أن يجد الحلول لكل أزمة أو معضلة تعاني منها الدول. ثالثًا: العقل الإبداعي: هو ذلك الشخص أو ذلك العقل الذي ينظر إلى الأمور بنظرة مختلفة، أو بالأحرى ينظر إليها بالعديد من الزوايا المختلفة، هو العقل الذي تتفجر من خلاله طاقات ذهنية ليصنع شيئًا مختلفًا أو يطور عملاً قديمًا، كل ذلك من خلال قدرات الخيال، والاستشراف ودراسة كل الفرضيات المتاحة، ويقول العلماء كل هذا الخيال يأخذ شكل صور ذهنية، ذات طبيعة إدراكية بشكل أساسي سواء كانت بصرية، أو صوتية، أو انفعالية، إلا أنها يجب أن تكون منظمة وفق مخططات مبسطة أو نماذج أصلية يحتذى بها. المقدرة الخلاقة تلك تستند بالإضافة إلى الخيال إلى القدرة على التماثل الذي تكمن آليته في إيجاد تشابهات مخبأة بين عناصر تكون ظاهريا متباينة، والفكر المتماثل هو أحد دعائم الإبداع في الفن وفي العلم. والعقل المبدع هو من ينظر إلى المشكلة بطرق مختلفة عن أغلب الناس، ويربط بين الأفكار والصور بطرق متعددة، وهو الذي يدرك جزيئات في العالم لا يراها أغلب الناس العاديين ويمكنه الربط بين هذه الجزيئات بطريقة لا يستطيعها أغلب الأشخاص، وكذلك يفكر بالمتناقضات بطريقة مختلفة عن الآخرين، لذلك يفكر في العديد من الطرق للوصول إلى حل لأزمة ما، ويفكر في العديد من البدائل، وفي النهاية يصل إلى الحل الناجع لكل أزمة، وذلك لأنه قادر على النظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، كل ذلك لأنه منفتح على العالم الخارجي بحيث يصير أكثر قربًا إلى ما يحيط به من أشياء فيجعل من عالمه الخارجي وحدة متكاملة مع عالمه الداخلي، ومنفتحا على العالم الداخلي فتندمج بذلك أحداثه الماضية مع الحاضرة والمستقبلية بأسلوب طبيعي غير متكلف. وباختصار، فإن التفكير الإبداعي، والذي يمكن تعريفه ببساطة هو خروج التفكير من إطار الصندوق الذي عادة ما يحدد بالتفكير العادي المتواضع. رابعًا: العقل المبتكر؛ يختلف العقل المبتكر عن بقية أنواع العقول، فالمبتكر هو من يوجد الأشياء. فالابتكار هو إيجاد شيء جديد لم يسبق استحداثه من قبل، أو تطوير شيء موجود أصلاً من خلال إعادة تصنيعه وهيكلته بطريقة جديدة ومختلفة تمامًا عن القديم، كما يجب أن تتماشى مواصفات الابتكار مع متطلبات المستهلك للمنتج الجديد، ويكون ذلك من خلال استغلال المنتجات المبتكرة المتوافرة في الأسواق والمجتمع أو الحكومات ذات فعالية أعلى. أو يُمكن تعريف الابتكار بأنه توجيه القدرات العقلية وتسخيرها في إيجاد فكرة جديدة، ويمكن تطبيقها، وتتطابق شروط الابتكار على المُبتكر إذا أجاب على تساؤلات ليست مألوفة أو لم يتم طرحها من قبل. كما أن الابتكار هو المقدرة على تطوير فكرة أو عمل أو تصميم أو أسلوب أو أي شيء آخر وبطريقة أفضل وأيسر وأكثر استخدامًا وجدوى. الابتكار أو التطوير الابتكاري، هو مصطلح يعني – بصورة عامة – التطوير الخلاق، بمعنى تطوير قيم جديدة للمستهلك من خلال حلول تتجاوب مع متطلبات جديدة له، أو لمتطلبات قديمة للمستهلك أو السوق بطرق جديدة. ويتم إنجاز ذلك من خلال تفعيل منتجات مبتكرة عبر نوع متخصص من المشاريع يسمى بالمشروع المبتكر أو عمليات، أو خدمات مبتكرة أو تكنولوجيا مبتكرة أو أفكار متاحة بسهولة في الأسواق، أو الحكومات، أو المجتمع بفعالية أعلى. وفي أغلب الأحيان يتم توظيف طرق أو منهجيات التطوير الابتكاري، في كل من تلك المشاريع. خامسًا: العقل الأخلاقي؛ هو العقل الذي يستشعر من خلاله صاحبه أنه ليس مسؤولاً عن نفسه فحسب، بل هو مسؤول عن المجتمع ككل بحيث ينأى بنفسه عن ثقافة (الأنا) وتسود لديه ثقافة (نحن)، وهو الذي يستطيع التغلب على النرجسية الذاتية التي يمكن أن تعشعش في نفوس الكثير من البشر، فيخرج من آلام الوحدة، والتقوقع على الذات التي تحجر تفكيره، وهو العقل الذي يرفض الاختناق تحت دخان العنصرية والطائفية بجميع أشكالها وصورها، لينطلق إلى رحابة المجتمع والدولة. فهذا العقل هو العقل الذي يمكن تشبيهه بالصمغ الذي يجمع أفراد المجتمع مهما كانت توجهاتهم وطوائفهم في بوتقة الوطن، ليعمل الجميع من أجل الوطن، ومن ثم يعمل الجميع من أجل المصلحة العامة وليس من أجل مصلحته هو فقط، وإن كان هذا لا ينفي أن يفكر صاحب العقل في ذاته أيضًا، فهذا العقل لا يدعو إلى الفكر الاشتراكي الشيوعي وإنما توازن المصالح بين الأطراف ميزان حساس يتخذه نبراسا له. سادسًا: العقل المحترم؛ وهو العقل الذي يحترم الآخر، والفكر الآخر، وهو العقل الذي يحترم التعددية الفكرية، ولا يعتقد أنه على صواب دائمًا وكل البشر على خطأ، فالعالم اليوم بات قرية صغيرة فيه البشر على أنواعهم المتعددة وأفكارهم المختلفة، ومن ثم يجب على المرء أن يدرك ذلك كله وأن يعرف أنه بشر وسط مجموعات بشرية والتفاوت حتمي بينها. وهو العقل الذي يحمل دائمًا ذلك الشعار الذي ينص على (ليس من حقك أن تكون دائمًا على حق)، و(عقلك ليس أفضل من عقلي حتى تفكر عني أو أفكر عنك)، وهو العقل الذي يؤمن بحرية المعتقد وحرية الآراء والأفكار ويتبع الطرق المختلفة والجماعية في التفكير، وهذا النوع من التفكير هو الذي يتمكن أن يصل إلى حدود الفكر البشري البعيد المدى. سابعًا: العقل المخطط؛ وهو العقل الذي يقوم بوظيفة التخطيط. ففي العالم العربي نحتاج بالفعل إلى هذا النوع من التخطيط وهذا النوع من العقول. فالعقل المخطط هو الذي يستطيع أن يحلل الأزمة أو المشكلة إلى أجزائها الصغيرة، ويضع تصورات واضحة لكل جزئية منها، ومن ثم يمكنه أن يضع الحلول قبل وقوع الأزمة، والحلول الناجعة للأزمة إن وقعت وبعد وقوعها. والعقل المخطط هو الذي يمكنه أن ينظر إلى الأمور والبرامج للمدى البعيد، ويمكنه أن يقول أو يتوقع بناء على المعطيات التي بين يديه أن الأمور ستصبح بعد عشر سنوات بهذه الصورة، لذلك يمكن أن نحيد عن الخطة التي وضعناها بعد عدة سنوات بهذه الطريقة، أو يمكنه أن ينظر إلى الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية قبل أن تقع ويضع لها كل الحلول الممكنة، ومن ثم يمكنه أن يجنب الدول كل تلك المتاهات التي يمكن أن تدخلها قبل أن تطأ قدمها فيه. ثامنًا: العقل المنفذ؛ وهذه العقول هي التي يمكن أن تحول كل تلك الخطط والأفكار إلى واقع عملي، فالمهندس يرسم المبنى ولكن المقاول هو الذي ينفذ تلك الرسوم على أرض الواقع، فلا المهندس يمكنه أن يأخذ دور المقاول ولا المقاول يمكنه أن يقوم بدور المهندس، فهذا يخطط وهذا ينفذ. وللأسف فإن أحد أهم أسباب فشلنا في العالم العربي هو أن الكل يخطط والكل ينفذ، فلا توجد لدينا ثقافة التخطيط ولا حتى وزارة للتخطيط أو هيئة للتخطيط، وكذلك لا يوجد لدينا منفذون يمكنهم تحويل الخطط إلى واقع وحقيقة، فالمسؤول في العالم العربي هو الذي يخطط وهو الذي ينفذ، وهو الذي يفكر، وهو الذي يصدر الأوامر. تاسعًا: العقل الإيماني؛ وهو العقل الذي يؤمن بأمرين، وهما: أن تتجاوز نظراته الأرض لينظر إلى السماء، ويدرك أن لهذا الكون خالقا ورازقا ومدبرا وصانعا وأنه على هذا الأساس يبني أفكاره للحياة. والأمر الآخر: أن يؤمن بالوطن وبأبناء وطنه، ويمنحهم الثقة للعمل والابتكار والإبداع، فولاؤهم أبناء الوطن لهذا الوطن، ولهذه الأرض. وعلى هذا الأساس يعمل. وختامًا، أعتقد إن فكرنا بهذا المنطق فإننا يمكننا أن ندخل بوابة المستقبل وأن نجتاز كل تلك المتاهات بسلام، وخلاف ذلك فلا أعرف ماذا يمكن أن يحدث.

مشاركة :