سواء في الشرق أو الغرب تتوالى طروحات ورؤى لمثقفين ومبدعين حول أهمية "ثقافة الإتقان" حتى يحق القول إنها تشكل "واجب الوقت "من اجل ان تمضي الإنسانية قدما نحو الغد الأفضل.وفي سياق تناول أهمية ثقافة الإتقان ومواجهة أي عناصر مهملة او منفلتة، يتفق المعلقون في الصحف ووسائل الاعلام المصرية على ان تلك العناصر المهملة والمنفلتة لا تحظى بأي تعاطف من جموع المصريين، وهاهي المؤرخة البريطانية هيلي روبينهولد التي عرفت بدراساتها المعمقة في التاريخ الاجتماعي تتساءل بنظرة عميقة للتاريخ الانساني:"لماذا لا نفعل الأفضل؟!" فيما تسعى هذه المؤرخة البالغة من العمر 48 عاما لاستخلاص الدروس المفيدة من أخطاء وخطايا يرتكبها البعض وتسبب حالة من الألم العام في المجتمع.وهيلي روبينهولد التي ولدت عام 1971 في لوس انجلوس بالولايات المتحدة وتعيش في بريطانيا منذ نحو عقدين لتتخصص في تاريخ المملكة المتحدة شغوفة بالتفاصيل وتؤمن بصحة المقولة التي يرددها البعض:"الشيطان يكمن في التفاصيل" وهي تركز في دراساتها التاريخية على الحياة الإنسانية للبشر العاديين.وفي خضم دراساتها التاريخية للتوصل لجذور أخطاء وخطايا وجرائم هزت المجتمع البريطاني في تاريخه الحديث تستعين هيلي روبينهولد التي أصدرت كتابا جديدا بعنوان "الخمسة" بكل المصادر المتاحة بما في ذلك السجلات الطبية ومحاضر مراكز الشرطة وقصاصات الصحف فيما يطرح كتابها الجديد رؤية جديدة بشأن جرائم ارتكبها مجرم يدعى "جاك السفاح" في القرن التاسع عشر وروعت البريطانيين.ولاريب ان الاهمال والافتقار لثقافة الاتقان سبب أصيل من أسباب الأخطاء والخطايا التي تثير حالة من الألم العام في أي مجتمع انساني وتشد اهتمام مؤرخة مثل هيلي روبينهولد، فيما رأى الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد ان الاهمال يفوق في خطورته الفساد، فقد اكد أهمية ان "تنتظم مصر كلها في حرب مستمرة على الاهمال الى ان تتمكن من قطع دابره". ولا جدال ان "الألم" قضية انسانية تخص كل الشعوب والثقافات وكل من هو جدير بالانتماء للبشر او للنوع الإنساني كما ان "ثقافة الاتقان" تشكل نوعا من "العلاج الاستباقي لأخطاء وإهمال جسيم للبعض في كل المجتمعات ويسبب حالة من الألم العام".وتلك القضايا حاضرة دوما في هموم المثقفين والمبدعين المصريين ورغم مرور اكثر من 12 عاما على رحيل النوبلي المصري نجيب محفوظ مازالت دعوته تنادينا من اجل "الإتقان " وهو الذي استنكر من قبل مظاهر للاهمال الجسيم قد تتسبب في حوادث تدمي الضمير العام.والمتأمل لكتابات الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ يخلص الى ان مفاهيم "ثقافة الاتقان" كانت حاضرة بقوة في عقله وقلبه من أجل غد أفضل للمصريين وهو ماقد يتبدى بوضوح في مقالاته الصحفية المنشورة ناهيك عن إبداعاته الروائية.وفي معرض تأكيده على أهمية الإتقان، يقول نجيب محفوظ ان الحاجة ماسة الى "ثورة اخلاقية شاملة تنعش الأرواح" مؤكدا أهمية "المساواة والعدل والنزاهة" ضمن هذه "الثورة الأخلاقية التي طال انتظارنا لها". رأى نجيب محفوظ ان الالتزام بالدقة والأمانة والمصلحة العامة هو معقد الرجاء لابداع الحضارة، لافتا لأهمية القدوة لتحقيق الانضباط والاستقامة والانجاز وداعيا لمطاردة الانحرافات باعتبارها "جريمة شنعاء في حق الجماهير التي تشقى في سبيل لقمة العيش".وفيما حذر محفوظ من "الانفعالية" التي سرعان ما تخمد في مواجهة السلبيات فانه يشدد ايضا على خطورة "الاهمال او الخمول والتواكل ومايعرف بالتسيب" موضحا ان صاحب هذا السلوك اللاأخلاقي "لاحدود لتذمره وشكاياته والحقيقة ان النقص الأول والجوهري راسخ في اعماقه" كما ان "الجشع والاهمال لايعرفان حدا يقفان عنده".ويمضي هذا الأب الثقافي المصري العظيم ليقول ان "الانضباط الحقيقي نبض في السلوك والقلوب قبل ان يكون مادة في قانون بل نحن لانسن له القوانين الا كاجراء عاجل لامفر منه" في المعركة ضد التسيب اما الهدف الأخير منه فهو ان يصير "عادة سلوكية وقيمة ينبض بها الضمير الحي".وأضاف نجيب محفوظ " اننا بحاجة للانضباط داخل النفس والضمير "لنعتنق الاخلاص في العمل والاعتدال في اللهو والبساطة حيال مطالب الحياة" مشددا من جديد على اهمية الارتقاء لمستوى المسؤولية بوحي من الضمير.وذهب في معرض تأكيده على أهمية الاتقان ومواجهة الإهمال وكل صور الانحرافات للمطالبة بما وصفه "بالعنف العادل" في مواجهة المنحرفين من كافة الأنواع دفاعا عن الأرواح والأموال والتنمية وسائر القيم "بل دفاعا عن مصير الوطن والمواطنين".وهكذا تشهد مقالات ورؤى نجيب محفوظ التي كان ينشرها بانتظام في جريدة الأهرام على إدراك عميق لأهمية الثورة الأخلاقية والعمل بوحي من الضمير الحي والشعور بالواجب والارادة الخيرة والتصميم النبيل والعزيمة التي لا تلين.كما يؤكد في الوقت ذاته أن "في صميم طبيعتنا ما يؤهلنا لمواجهة العصر بجميع تحدياته" مستشهدا بما تحقق من نصر في حرب السادس من أكتوبر المجيدة ومضيفا:"نحن شعب لا تنقصه في صميمه الصلابة والقوة ولاتعز عليه التضحية في سبيل المجموع والقيم".ومسألة التربية تحظى بأهمية واضحة في منظور نجيب محفوظ الذي يقول:"لن يتهيأ لنا الكمال في ايقاظ الضمائر وبناء الشخص المطلوب الا بالتربية الطويلة" معتبرا أن "التنمية الشاملة ماهي الا تسمية جديدة لما عرف في التاريخ بالنهضة الشاملة وخاصة إذا ركزت على الأسس والأصول".والاستقلال الحقيقي في منظور نجيب محفوظ يعني "ان نعتمد على انفسنا اعتمادا يغنينا عن مساعدة الغير او الوقوع تحت رحمته وان نلتزم بذلك مهما كلفنا من جهد اوتضحية" وان "نحافظ على طهارة العمل واستقامته ونطارد المنحرفين بلا تهاون" مع مراعاة العدل والتضامن حتى يتحمل كل على قدر طاقته.لعل اللحظة المصرية الراهنة بكل تحدياتها تستدعي قراءة جديدة لمفاهيم ثقافة الاتقان ومعانيها وإطلاق الخيال حول سبل تجسيدها ضمن تصورات المستقبل الذي تمناه عاشق كبير لمصر مثل نجيب محفوظ الذي كان يتألم لأي مظاهر للانفلات الأخلاقي والسلوكي والإهمال الجسيم.و"الألم" قضية انسانية تخص كل الشعوب والثقافات وكل من هو جدير بالانتماء للبشر او للنوع الانساني وبالقدر ذاته فان الألم قد يكون طريقا لتطوير الذات الانسانية والأمم والشعوب عبر تبني ثقافة الاتقان.والألم في الثقافة الغربية مثلا قد يكون طريقا لتطوير الذات كما يوضح مثلا كتاب صدر بالانجليزية بعنوان "قصة الألم" لجوانا بورك وهو بحق يشكل "دراسة جريئة عن الاستجابة الانسانية للألم" لكاتبة صاحبة اهتمامات ثقافية عميقة بقضايا ومشاعر مثل الحزن والقتل والخوف فيما تبدت تلك الاهتمامات منذ بدايات مسيرتها مع الكتابة وكتابها المبكر:"مامعنى ان تكون انسانا"؟!.وهذا الكتاب لجوانا بورك يحوي شهادات وآراء لشعراء ورجال دين وأطباء فيما تجمع المؤلفة ما بين الخبرة الاكاديمية وجمال الأسلوب والطرح غير التقليدي فاذا بها قد صنعت حالة من الكتابة المبهجة رغم ان الموضوع بطبيعته محزن لأنه يتناول "الألم".وللألم تجلياته العبقرية في الإبداع كما هو الحال على سبيل المثال في رواية "بالأبيض على الأسود" لروبين جونزاليز والتي تحكي تجربته الانسانية الاليمة كشخص وصف بأنه "كمعوق" غير انه حول ذاته الى موضوع كبير عن علاقة المجتمعات بابنائها من المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة وكيف تكون عنوانا على التحضر الانساني.فهذا المؤلف الاسباني سعى لتحويل سيرته الذاتية لرواية بالمعنى الفني وكان همه الأساسي نفي الذات باديء ذي بدء حتى لايقع في شبهة استدرار عطف القاريء عليه فيما نجح بالفعل في طرح رؤية فنية تقدم عالما شديد الثراء في الدلالة على الأعماق الحقيقية الصادقة والمباشرة للانسانية حال عجزها عن ممارسة الحياة بصورة طبيعية.والبشر الذين يؤمنون بعدالة قضاياهم وقضايا الوطن هم كما تؤكد جوانا بورك في كتابها الجديد قد لا يشعرون بأي ألم في قلب المعركة مهما كانت قسوة جراحهم لأن مشاعرهم وأحاسيسهم كلها مشدودة لعدالة ونبل القضية التي يحاربون في سبيلها ولن يكون هناك ما هو أنبل او أكثر عدالة من قضية النهوض بالوطن فضلا عن مواجهة الإهمال عبر تبني ثقافة الإتقان.وتشكل تبدو ثقافة الاتقان مع قراءة واعية للنماذج الناجحة في هذا النوع من الثقافة فى عالم بات قرية صغيرة بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات واجب الوقت فى مواجهة أسئلة مريرة تتردد من حين لحين وفى سياقات محزنة جراء حوادث في مجتمعات إنسانية شتى لكنها تعكس ككل اهمالا جسيما من جانب البعض مع غياب محزن لثقافة الاتقان.وبالقدر ذاته فمن الأهمية بمكان تجنب "جلد الذات" فبلد فى حجم الصين سعى ويسعى لتعلم الدروس المستفادة من تجربة سنغافورة الناجحة فى النمو التى اسسها لى كوان يو وهى تجربة ترتكز على ثقافة الإتقان ونهج العمل المنضبط والنظام القائم على الجدارة، وهذا ما أدركه مبكرا الزعيم الصينى دينج شياو بينج وهو يطلق سياسات الانفتاح ويقارن بين التجارب التنموية الناجحة والانسب لظروف بلاده.والحق ان التجربة السنغافورية وجذورها التاريخية تثير حتى اهتمام الثقافة الغربية وها هو كتاب صدر بالانجليزية بعنوان:" رافلز والفرصة الذهبية" تتناول فيه المؤلفة فيكتوريا جليندينج تاريخ هذا البلد الأسيوى منذ بدايات القرن التاسع عشر وهذا الكتاب مفيد فى التعرف على منابع النجاح الذى حققته سنغافورا كنموذج مضيىء لثقافة الاتقان.والأمر عند مثقف ومبدع مصري كبير مثل القاص الدكتور محمد المخزنجي يتمثل في ان مصر عليها النجاح في "امتحان التنمية او الصعود اوالنهضة" مؤكدا أهمية الالتفات في اي بناء واي تجديد "للثقافة والابداع والخيال" فيما رأى ان مشاكل الواقع تتطلب خيالا طليقا وخصبا ومبادرات ابتكارية وحلولا غير مسبوقة".وثمة اهتمام واضح للمثقفين بثقافة الاتقان ضمن اهتمام عام بمسائل التنمية والقضايا المتصلة بثقافة النمو والتقدم وهناك دراسات لافتة تتفق على ان "العمل المرتكز على التفكير العلمي مفتاح كل شييء" مع تركيز على محاولة صياغة قوانين عامة وشاملة للنمو والابتكار والاستدامة.وفي هذا السياق اهتمت الدوائر الثقافية في الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص بدراسة لجيوفري ويست عنوانها "مقياس: القوانين الجامعة للنمو والابتكار والاستدامة وايقاع الحياة في الكائنات الحية والمدن والاقتصاديات والشركات".وعالم الفيزياء جيوفري ويست قضى اغلب سنى حياته كباحث في الكيان العلمي الأمريكي الشهير في التقنية وتطبيقات العلم "مختبر لوس الاموس الوطني" تحول بعد تقاعده عن العمل بهذا المختبر للتركيز على مايعرف بتطبيقات التكنولوجيا الحرجة للعلوم المتشابكة حيث يقود معهد "سانتافي" الذي يضم فرقا مشتركة لباحثين في الفيزياء وعلوم الحاسوب والرياضيات والبيولوجي والاقتصاد والسياسة من اجل التوصل "لفهم اعمق لتعقيدات وتشابكات البيئة الطبيعية والمجتمع الإنساني باستخدام مناهج التفكير العلمي" وبما يعيد للأذهان قضية "وحدة المعرفة وتنوع تطبيقاتها". غير أن جوهر هذه الدراسة الجديدة والمهمة يؤكد على أهمية ثقافة العمل بأعلى درجات الاتقان لمن يريد ان يجد له المكان المناسب في عالم لم يعد بوسع احد توقع ماستصل اليه ثورة المعلومات والطفرة الهائلة في الابتكارات وتطبيقات العلم او التكنولوجيا على قاعدة الابداع الانساني.ولعل مصر تقدم الكثير من النماذج المضيئة لهذا النمط من الثقافة كما يتجلى مثلا في "مجمع بنبان للطاقة الشمسية" بأسوان والذي يعد أكبر مجمع محطات للطاقة الشمسية في إفريقيا والشرق الأوسط فيما افاد المركز الاعلامي لمجلس الوزراء ان استثمارات هذا المجمع المصري العملاق والمقرر الانتهاء منه في منتصف هذا العام تبلغ في مجموعها ملياري دولار.وحسب بيانات منشورة فان متوسط ماتم انفاقه على البنية الاساسية في مصر بين عامي 2014 و2018 يتجاوز ال800 مليار جنيه وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الدولة المصرية بقدر ما يعبر عن عزم المصريين لاعادة بناء وطنهم على أحدث معايير العصر وبروح ثقافة العمل والاتقان التي ترفض اي اهمال وتنبذ العناصر المهملة والمنفلتة.وهكذا يرى الكاتب الصحفي الكبير في جريدة الأهرام مرسي عطاالله ان هناك حاجة لمراجعة بنود ثقافة العمل بما يسمح بفهم جديد لدور المؤسسات والمرافق الحيوية للارتقاء بها الى مستوى المهام الكبرى المعلقة عليها.وثقافة العمل والاتقان" تنطوي على العديد من القيم الثقافية الايجابية مثل التفكير الابتكاري وإعلاء قيمة الأمل وتحدي اليأس والاحباط وتأكيد الثقة بالذات المنفتحة على العالم وهذا "التفكير" حاضر في اذهان مثقفين مصريين منذ سنوات بعيدة حتى انه منذ عام 1950، قال مثقف وصناعي مصري كبير شغل منصب رئيس اتحاد الصناعات حينئذ وهو صبحي وحيدة في كتابه "في اصول المسألة المصرية" ان التعليم لن يغني عن المتعلمين شيئا ماداموا لايجدون في الحياة اليومية مايتصل به من ظواهر يستطيعون بمعالجتها "ان يطبقوا علمهم وينموا ملكاتهم ويرتفعوا الى الابتكار".واذا كان الشعار العقلانى فى المرحلة الراهنة بمجتمعات متعددة:"دعم النمو" بكل السبل فان مصر تمضي قدما في تجسيد هذا الشعار في ارض الواقع من اجل مستقبل افضل لأجيال شابة وصاعدة فيما لن يسمح المصريون لأي عناصر مهملة او منفلتة ان تبدد انجازاتهم الهائلة وتهدد احلامهم النبيلة في دعم النمو وتحقيق التنمية الشاملة بأعلى المعدلات..فسلام على كل من يعمل باتقان اجل الوطن وسلام لكل وجه كادح تحت علم الوطن.
مشاركة :